الضلال في الدين لا يقتصر على فئة بعينها، فلا يكون الضلال في أهل الفن أو السياسة أو رجال الأعمال وحدهم، بل قد تكون كذلك في فئة ممن ينتسبون إلى الدعوة والعلم، ولم يكن المسلم العادي يتصور يوماً أن يرى من يعتلي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدلّس على الناس دينهم، جاعلاً الحق باطلاً والباطل حقاً، أو أن ترى من يلبس زي العلماء وهو يكذب على الله ورسوله كذباً صراحاً؛ لأجل دنيا أو مطمح هنا أو هناك!
ولقد رأينا أفواه مثل هؤلاء تقذف بالقذى دون حياء من الله تعالى أو حياء من الناس، حتى خرج علينا من يقول: إن الراقصة تأخذ رزقها بعرق جبينها! فهي تأخذ الأموال مقابل عملها، أو من يرى بعض البشر اليوم في مقام الأنبياء! أو من يرى أن أصحاب الأديان المحرفة من أهل الإيمان وأنهم من أهل الجنة! أو من دعا إلى قتل الأبرياء ورآه قربة إلى الله! أو من يرى الجهاد في سبيل الله ضد الكيان الصهيوني لعباً وليس من الجهاد في شيء! بل يكفّر المجاهدين وينتصر للكافرين، في فحش من القول وزوراً لم يقله كثير من غير المسلمين الذين انتصروا للعدل بفطرتهم.. فمثل هؤلاء الدعاة ليسوا من أنجاس الدعاة فحسب، بل هم من أنجاس الناس، فقد تنكست فطرتهم، وضلوا عن سواء السبيل.
ولا عجب أن يخرج في كل عصر من العصور مثل هؤلاء، فتلك لعمري من الفتن التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسماهم «دعاة على أبواب جهنم»، كما ورد في صحيح مسلم (1847) من حديث حذيفة بن اليمان، يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سُنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
فقد أبان النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك الفتنة التي نعيشها، من الأئمة الذين يضلون الناس، والأئمة هنا هو كل إمام له سلطة وأتباع، سواء أكان سلطة في الحكم والسياسة، أو سلطة في الدين والعلم، أو سلطة في الإعلام والصحافة، أو أي سلطة تجعل من الشخص أو الهيئة متبوعة من الجماعات البشرية، وها نحن ذا نرى كثيراً من الإعلاميين يبثون سمومهم للناس، مدلسين عليهم في الحق، وهؤلاء دعاة على أبواب جهنم، فكل من دعا إلى ضلالة يعرف في نفسه أنها ضلالة، يقصد بذلك عرضاً من الجاه أو المال أو الدنيا؛ فهو إمام من أئمة الضلالة وداعية من الدعاة على أبواب جهنم.
وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، بعدة أوصاف، أولها: «قوم من جلدتنا»؛ فهم ينتسبون إلى هذه الأمة، ويحسبون أنفسهم منها، فهم من قوميتنا وأوطاننا، فهم ليسوا أجانب، والوصف الثاني: «ويتكلمون بألسنتنا»؛ فهم يتكلمون اللغة العربية في بلاد العرب، أو غيرها من اللغات التي تستعمل في بلاد المسلمين، وهذا يساعدهم على التدليس على الناس، فإن الأمة مفطورة على الحذر من غير المسلمين، أو ممن لا يتكلم بلغتهم، أما من كان منهم ويتكلم بلغتهم، فقد يقع من لا إدراك له في شراك تدليسهم وكذبهم وخيانتهم لله ورسوله وللأمة، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم المخرج التمسك بجماعة المسلمين وخليفتهم.
ومن العجيب أن حذيفة بن اليمان كان فقيه استشراف المستقبل، فقد تعدى تفكيره وعقله الواقع الذي يعيشه إلى ما هو أبعد، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً يعد غريباً في زمنه، فيقول له: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
وهذا يعني حصول الهرج والمرج في حياة المسلمين، وأن يختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل في جماعات كثيرة من المسلمين، فهنا يجب اتباع الحق وعزلة تلك الفرق كلها؛ تمسكاً بالحق الذي يوقن به، حتى لو نطق بالباطل شيوخ الإسلام، فإن الإسلام يعرف بذاته.
وهنا تظهر عبقرية الإسلام الذي يحرر العقل من التبعية المقيتة، فلا قدسية لبشر، فإن الإسلام وإن كان يدعو إلى اتباع العلماء، كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)، لكنه لم يجعل كل كلام العلماء حجة، بل يتبع الناس العلماء إذا نطقوا بالحق وأبانوا الصدق، أما إذا حادوا عن الحق إلى الضلالة، فلا سمع لهم ولا طاعة سواء كان إماماً في الدين أو في غيره من شؤون الحياة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه، كما في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 988): «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر».
وفيه أيضاً (2/ 978): عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأخاف على أمتي من بعدي أعمالاً ثلاثة»، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائز، ومن هوى متبع».
وعن زياد بن حدير، قال: قال عمر رضي الله عنه: «ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون»؛ وفي الحديث: «يذهب العلماء ثم يتخذ الناس رؤوساً جهالاً يسألون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون»، فلا حجة لأحد على دين الله، فمن اتبع دين الله ورضوانه اتبعناه، ومن زاغ لدنيا أو جاه، فلا سمع له ولا طاعة، وإن الله تعالى جعل في كل امرئ فطرة نقية يستطيع بها التمييز بين الحق والباطل، وليسأل نفسه في أي شيء: هل هذا يرضي الله أم يسخط الله؟ هل هذا في ميزان الحسنات أم ميزان السيئات؟
إن ظاهرة «دعاة على أبواب جهنم» ليست جديدة في تاريخ الإسلام، بل ظاهرة تتجدد، وفق سُنة الله تعالى في التدافع بين أهل الحق والباطل، وليتخير كل امرئ لنفسه ما يحب أن يلقى الله تعالى به، ولا يغتر بحلم الله، فإنه سبحانه إن كان وصف ذاته العلية بقوله: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الحجر: 49)، فقد أعقبها بقوله جل في علاه: (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (الحجر: 50).
وإن من أعظم قواعد الفقه في التعامل مع الناس قولهم: «الحكم على الأفعال لا على الذوات»، فقد تدفع الخصومة بين العلماء الكذب على الله انتصاراً للنفس، ومن هنا يعلمنا الإسلام أن نحكم على الفعل لا على الشخص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصف الشيطان الذي جاء يسرق من بيت مال المسلمين بقوله، كما في صحيح البخاري: «صدقك وهو كذوب».
فلا تكون الخصومة دافعاً للتدليس في دين الله تعالى، وليجعل العلماء نصب أعينهم رسالتهم والعهد الذي أخذه الله عليهم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران: 187).