أحوج ما تكون الحقائق التاريخية إلى شواهِد تُفصح عنها وتدل عليها، وتشير إليها وتهتف بها، وإذا كان الأثر يدل على المسير، فمن أبلغ الشواهد التي لا تحتاج إلى جدل ولجاج، أنَّ من المُحال وجود معابد بلا عُبّاد، ولا مزارات تُشَدُّ إليها الرحال بلا زوّار، ولا مؤسسات بلا روّاد.
وبدون المقدسات، تبقى الحقائق والوثائق والإحصاءات والتقديرات عرضة للتشكيك ومثاراً للريبة والافتئات، بل إنَّ من الوارد جداً في عصور تتشوه فيها الحقائق وتتزيّن الأكاذيب يمكن أن يكون وجود صاحب الأرض الفلسطيني مجرداً من التاريخي الحي بلا تراث ولا آثار تدل على أصالة بذوره وعراقة جذوره يبقى الحديث عنه في مدونات التاريخ البشري مجرد معلومة نسبية تفتقر إلى الدليل الواقعي وإلى البرهان الحي! ولذلك، نجد أنَّ العدوان على المقدسات الفلسطينية من أبجديات مخطّطات الاحتلال الصهيوني، باعتباره مدخلاً إلى العدوان على التاريخ والجغرافيا، وإحلال تاريخ وجغرافيا بديلين!
إستراتيجية التجريف التاريخي
ومنذ أن وطئت أقدام المحتلين الصهاينة في فلسطين، نلحظ أن المعالم التاريخية قد تعرضت لتجريف مخيف بغرض طمس أي أثر يدل على الحقوق التاريخية، ولقد كانت المساجد والكنائس والأوقاف بصفة عامة أكثر المعالم استهدافاً وفق مخطط صهيوني واضح لا يحتاج إلى تفسير.
العدوان على المقدسات من مخطّطات الاحتلال لطمس الحقوق التاريخية
إن الصهيونية العالمية قد رأت أن أكبر عائق أمام حركة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة المعالم التاريخية، سواء أكانت أوقافاً أو مساجد أو كنائس أو أي مؤسسات دينية أخرى؛ ولذلك شرعت قوات الاحتلال الصهيوني، على سبيل المثل، منذ اليوم الأول لاحتلال القدس، في 7 يونيو 1967م، مباشرة بالاعتداء على المسجد الأقصى المبارك، ومنع أول صلاة جمعة بعد الاحتلال يوم 9 يونيو في المسجد، وبعدها مباشرة بدأ الاحتلال في 11 يونيو بهدم حارة المغاربة المجاورة تماماً للمسجد؛ ما يعني أن الاحتلال فتح النار على المسجد الأقصى من اليوم الأول لاحتلال القدس، ثم قام باحتلال حارة الشرف المجاورة تماماً لحارة المغاربة، وصار لليهود حارة في مدينة القدس المحتلة.
ثم تمددت تلك الإستراتيجية أفقياً عبر آفاق التراب الفلسطيني، تحريقاً وتهديماً وتجريفاً لتبتلع في باطنها الشره مقدسات ومقابر ومعالم تاريخية لا تقل أهمية عن بعضها في عموم فلسطين المحتلة.
وقد كان إحراق مجمع كنيسة المهد في طليعة إستراتيجية التجريف التاريخي التي اعتمدتها دولة الاحتلال كجزء من عمليتها «الدرع الواقي» عام 2002م، حيث احتلت قوات الاحتلال «الإسرائيلي» مدينة بيت لحم، ثم ما لبثت أن انسحبت مكتفية بنفي بعض النشطاء الفلسطينيين إلى قطاع غزة، وكذلك إلى بلدان أوروبية.
أبرز المعالم المدمرة في غزة
ذلك، ولم يكن قطاع غزة بعيداً عن تلك المحارق التاريخية، ففي عام 2014م، تم تدمير عدد من المقدسات والمعالم التاريخية في القطاع، كان من بينها كنيسة «القديس بروفيروس»، الواقعة في حي الزيتون بمدينة غزة، التي بُنيت عام 425م.
ونركز في هذا السياق على ما يمكن وصفه، دون مبالغة، بـ«المذبحة التاريخية» التي أطاحت بالمآذن والقباب في خضم أبشع عملية غير مسبوقة عبر تاريخ العدوان على المقدسات ودور العبادة التي وقعت مع تصاعد عمليات التوغل البري خلال بلدات قطاع غزة في إثر عملية «طوفان الأقصى»؛ حيث تُشير التقديرات إلى أنَّه مع منتصف يناير، قد تم تدمير نحو 380 مسجداً، كُلياً أو جزئياً، فضلاً عن 3 كنائس في قطاع غزة، منذ بدء العدوان!
تدمير 380 مسجداً كلياً أو جزئياً و3 كنائس في قطاع غزة منذ بدء العدوان
ولقد كان من أبرز المعالم التاريخية التي تعرضت للتدمير الكامل المسجد العمري، الذي يرتبط تاريخياً بدخول الإسلام إلى غزة، حيث بُني في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، كان في السابق معبداً رومانياً ثم كنيسة فيما بعد، وأصبح أكبر مسجد بعد الفتح الإسلامي، ويقع المسجد في البلدة القديمة بغزة، بالقرب من ساحة فلسطين، ويمتد على مساحة 4100 متر مربع، مع فناء بمساحة 1190 متراً مربعاً يتسع لأكثر من 3000 مصلٍّ، ونتيجة لذلك، تعاني الأحياء المتضررة الآن من الفراغ أثناء أوقات الصلاة، حيث تفتقد الأذان المثير للروح الذي كان يتردد صداه في جميع أنحاء المدينة.
وتواجه الأوقاف الفلسطينية موجات التجريف الصهيوني، تلك الموجات الأشد غَشماً وعنفواناً عبر تاريخ الاحتلال الصهيوني، وذلك بهدف إخفاء طمس سجل الشواهد وإخفاء الأدلة والبراهين دليلاً تلو دليل، وبرهاناً تلو برهان، على حقوقنا المشروعة ليس في مقدساتنا فحسب، وإنما في بلداننا الفلسطينية كافة.
وفيما تتكرر نداءات الأمم المتحدة على ضرورة احترام المقدسات الفلسطينية، يواصل الاحتلال شن غارات مكثفة على مناطق عديدة مستهدفاً ليس المدنيين فحسب، بل مختلف معالم وآثار غزة بما فيها المساجد والكنائس في محاولة لطمس الوجود الديني والثقافي والتراثي الفلسطيني وفقاً لمكتب الإعلام الحكومي.
وبوجه عام، فإنّنا من خلال نظرة أولية إلى أوقاف المقدسات الفلسطينية، سنجد غالبيتها إمّا مؤسسات وقفية كالمساجد والكنائس والمقابر والمدارس والمشافي والمساقي والحمامات والمواضئ وغيرها، وإمّا أعيان موقوفة على هذه المؤسسات من عقارات ومبان وأطيان زراعية وغير ذلك من موقوفات على الأوقاف.
هذه الأوقاف بجملتها منها ما هو ثابت بالوثائق والشواهد الدالة على أحقيتنا فيه ومنها ما هو نِسْبِيُّ الثبوت؛ مثل: المسجد أو المدرسة التي تدل شواهد الممارسة والأنشطة بالحق فيه بطبيعة الحال لكن دون وثائق ثابتة، ومنها ما له وثائق لكنه واقع تحت يد الاغتصاب أو الطمس والتجهيل والتنكير لمعالمه حتى تنتفي أمارات الحق عنه، إسلامياً أكان أم مسيحياً؛ الأمر الذي يحتم علينا توفير كافة السبل والوسائل التي من شأنها تعزيز موثوقية الحقوق المشروعة في أوقاف المقدسات، سواء المتهدمة أم المتضررة أم السليبة، ومن ثم تعزيز مواقف المطالبة بها وتقنين استردادها في أقرب فرصة ممكنة.