في اليوم المائة منذ اندلاع معركة “طوفان الأقصى” البطولية، والإنسانية عامة، والأمة الإسلامية خاصة تتابع أحداث هذه المعركة يوماً بيوم، وساعة بساعة، ولحظة بلحظة، والكل سكوت ووجوم ودهشة مما يشاهدونه من بطولات أسطورية، وتضحيات غالية، وصبر واحتساب من المجاهدين ومن الشعب الفلسطيني، ومن جميع أهل فلسطين المحتلة الذين لم يسلم بشرها ولا شجرها ولا حجرها من اعتداءات الصهاينة المجرمين!
وكل ما نراه من المجاهدين والشعب الفلسطيني ليس غريباً أن يصدر من مسلم تربى على الإيمان بالله تعالى، وعرف معنى الجهاد في سبيله، وطمع في وعد الله بالنصر والتمكين، أو بالموت في سبيل الله ونيل درجة الشهادة، وليس غريباً من إنسان احتلت أرضه، وسلب ماله وانتهك عرضه، وقتل أو شرد أهله، فإن هؤلاء لا يملكون إلا مقاومة عدوهم وبذل الأنفس من أجل تحرير أرضهم المحتلة واستعادة مجدهم المسلوب.
بل المستغرب جداً هو ما نراه من مظاهر العجز والخذلان، مما يحدث في هذه المعركة من جرائم الصهاينة الفظيعة (30843 شهيداً ومفقوداً)، (تدمير 69000 وحدة سكنية) (تدمير 30 مستشفى كلياً) (تدمير 243 مسجدا كلياً) (تدمير 295 مدرسة وجامعة). [1]
وكما في المثل الشائع: “إذا عرف السبب بطل العجب” فما أسباب هذا العجز والخذلان مما حدثت وتحدث إلى اليوم من الجرائم الصهيونية المختلفة والمعلنة جهاراً نهاراً؟
أسباب عجز وخذلان العالم الغربي ومن والاه
هناك أسباب عديدة لعجز وخذلان العالم الغربي ومن ورائهم من الدول غير الإسلامية، وتتلخص في التالي:
1- النفاق الذي يمارسه العالم الغربي:
حيث يدعون الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمساواة ومحاربة الإرهاب وغيرها من المصطلحات الخداعة التي ظاهرها محبة الخير للبشرية وصيانة كرامتها، ولكن باطنها الحرب على الإسلام والمسلمين، واحتلال أراضيهم وسرقة ثرواتهم وتمكين عملائهم على رقاب الشعوب الإسلامية.
2- الازدواجية في المواقف من القضايا الدولية:
حيث يقفون مع المظلومين من غير المسلمين، وينصرونهم على أعدائهم، ويحمون حقوقهم، وأقرب مثال وأحدثه الموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا، ويقفون مكتوفي الأيدي حينما يقع الظلم على المسلمين، كما هو مشاهد في معركة “طوفان الأقصى”، والأمثلة في الحالتين كثيرة جداً.
3- موالاة الكفار بعضهم بعضاً:
وهي حقيقة قرآنية لا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [سورة الأنفال:51] وقال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [سورة الأنفال: 73]. ومن الشواهد على موالاة الكفار بعضهم لبعض في هذه المعركة ما أفصح عنه وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلنكن من أنه جاء إلى تل أبيب بصفته يهودياً وليس بصفته وزيراً للخارجية للولايات المتحدة، والدعم العسكري للجيش الصهيوني اللامحدود، بل والمشاركة الفعلية في الحرب على غزة، من أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
أسباب عجز وخذلان العالم الإسلامي
أما عجز وخذلان العالم الإسلامي في معركة “طوفان الأقصى” فهو أشد وأخطر أنواع العجز والخذلان، لأن من الواجب على المسلمين أن يوالي بعضهم بعضاً، وأن ينصر بعضهم على من اعتدى عليهم وظلهم، قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال: 73] وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [سورة التوبة:71] وقال صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يسلمه” (البخاري، برقم : 2442، مسلم برقم : 2570)
ومع هذه المقررات الشرعية والمسلمات الإنسانية فإننا نشاهد العجز والخذلان في أنذل صوره وأغرب مظاهره في معركة الطوفان، وأهم الأسباب المؤدية إلى عجز وخذلان كثير من المسلمين لإخوانهم في غزة وفلسطين أربعة، سبب عام، وثلاثة أسباب خاصة، وتفصيلها كالتالي:
4- السبب العام: الإعراض عن منهج الله القويم
فالأمة الإسلامية هي أمة منصورة ممكنة في الأرض متى تمسكت بحبل الله المتين، وعملت بشرعه الحكيم، وسارت على الهدى المستقيم، قال تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج: 40، 41]
وحين تتحقق في الأمة هذه الشروط تقوم الأمة برسالته الحضارية من الشهادة على غيرها من الأمم، فتدعوا الناس إلى الإيمان، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتنصر المظلوم، وتخرج الناس من ضيق الأديان والحضارات الزائفة إلى سعة الإسلام وتعاليمه السمحة.
أما إذا أعرضت الأمة عن منهج الله تعالى القويم، واتبعت سنن اليهود والنصارى في الانحرافات الدينية الفاسدة، وسنن الفرس والروم في المناهج السياسية الظالمة، – وهذه حالها الآن مع الأسف- فإن حياتها ستصبح ضنكة لا تطاق، وتفرقا وتمزقا لا يرقع، وذلة وتبعية لا تحد.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أمور تسبب هلاك الأمة أو ضعفها، والأمة الآن فيها غارقة إلا من رحم ربك وقليل ما هم، فعن عبد الله بن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم” [2].
وأما الأسباب الخاصة فأهمها ثلاثة، وهي:
5- ضعف الإيمان وقلة الوازع الديني:
فإن عقيدة الولاء والبراء إذا ضعفت، وقل الوازع الديني في الأمة، انقطعت أواصر الأخوة الإيمانية، وحلت مكانها العصبية الجاهلية المنتنة والولاءات القومية والطائفية الضيقة، فيرى بعض المسلمين إخوانهم في المشرق أو في المغرب يقتلون ويضطهدون، وتسلب أموالهم وتنتهك حرمات، فيتفرجون ويسدرون في لهوهم ولعبهم غير لا يلوون على شيء، فتحدث الفتنة العظيمة والفساد الكبير والعريض في أمة الإسلام، قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال: 73] وقوله تعالى {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} قال ابن جريج: “إلا تتعاونوا وتتناصروا…” وقوله تعالى {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} “فالفتنة في الأرض هي: قوة الكفار، والفساد الكبير هو ضعف المسلمين” [3].
6- الغثائية: «حب الحياة وكراهية الموت»:
وهذا هو التفسير النبوي لما يحدث للأمة من الضعف والتبيعة والمذلة في آخر الزمان، فالأمة حين تتعلق قلوبها بالدنيا وزخارفها، وتغرق في أوحال الشهوات، وتصل إلى أعلى درجات الترف، فإن الله يتسلط عليهم أعدائهم من الكفار من جميع الملل والنحل، ومن شتى قوى الشر ومشاريع الطغيان في العالم، قال صلى الله عليه وسلم “يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها ” قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: “أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، تنتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن “. قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: “حب الحياة وكراهية الموت”[4].
7- التفريط في مقصد تحصيل القوة للأمة:
إن من مقاصد السياسة الشرعية حماية بيضة الأمة وإرهاب أعدائها، واتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن حياض المسلمين، قال ابن عاشور رحمه الله ((فمن مقاصد الإسلام أن تكون الأمة الإسلامية مرهوبة الجانب محترمة، منظور إليها في أعين الأمم الأخرى نظرة المهابة والوقار، يخشون بأسها ليردعهم عن مناوشتهم إياها وتكدير صفو الأمن فيها))[5].
ومع الأسف الشديد فإن الدول الإسلامية قد قصرت تقصيراً كبيراً في السعي الدؤوب لامتلاك القوة بأنواعها، واكتفت بتحصيل الأسلحة عن طريق الشراء والاستيراد أو الهبات والمساعدات، وليس من المعقول أن يمد عدوا عدوه بسلاح وعتاد وقوة، وقديما قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَمِ
وأخيراً، فإن هذا العجز والخزلان على مستوى العالم الغربي، أو على مستوى الأمة الإسلامية، فإنه لا يضر المجاهدين في فلسطين وفي غزة، ذلك لتوكلهم على الله تعالى، وبذلهم ما في وسعهم من في وسعهم من إعداد القوة من أجل الدفاع عن الأوطان والمقدسات، وهذا هو الواجب عليهم شرعا وعقلا، وقد وعد الله تعالى من توكل عليه وفعل ما استطاع من أوامر الله تعالى بالنصر والتمكين، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد: 7 ] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [سورة الطلاق:3] وقال صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”[6].
والله أكبر وللحمد.
_______________________
[1] هذه الإحصائيات حسب المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة.
[2] سنن ابن ماجة برقم (4019)، والمعجم والأوسط للطبراني برقم (4671) وغيرهما، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة، 1/218، ط1 1415هـ.
[3] لباب التأويل في معاني التنزيل، تأليف علاء الدين علي بن محمد، الخازن، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، ط1 – 1415 هـ 2/330.
[4] مسند أحمد (برقم: 22374) وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده حسن.
[5] أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 216.
[6] صحيح مسلم، برقم (1920).