قوامة الرجل على المرأة ليست تشريفاً بقدر ما هي تكليف بالرعاية الكاملة، التي لا تقتصر على النفقة، ولكنها مهمة تشمل كل ما من شأنه تسيير الحياة الزوجية في مناخ آمن يضمن استمرارها.
المرأة بطبيعتها كثيراً ما تغلبها العاطفة، ولها احتياجات ومتطلبات تعد الغفلة عنها أحد أبرز أسباب الخلافات الزوجية، وهنا يأتي دور الرجل في استيعاب زوجته للتغلب على هذه المشكلات.
المتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجته عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، يرى بوضوح القدرة الاستيعابية التي كان يتمتع بها النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع عائشة، ولنا هنا وقفات مع أبرز مظاهر هذا الاستيعاب، منها:
الإنصات الفعّال:
خلافاً للرجل الذي يميل غالباً إلى المختصرات والخطوط العريضة وزبدة الحديث، تميل المرأة إلى الإغراق في التفاصيل، وكثيراً ما تصطدم بطبيعتها هذه مع قلة صبر الزوج وتأففه من كثرة الكلام.
وإذا سلمت من ضجر الرجل وتأففه وقلة صبره، فقد تواجه شعوراً مقيتاً بأن زوجها يستمع إليها على مضض، ويود لو أنها فرغت من حديثها.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم قد علّمنا ما يسمى بالإنصات الفعّال، الذي يخلو من المقاطعة، ويمنح الفرصة للمتحدث بأن يتم حديثه، ثم يظهر تفاعله بالمشاركة برأيه ما يؤكد استيعابه لكل الكلام في اهتمام.
ولعل حديث أم زرع الشهير أبلغ ما يستدل به على التزام النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجه الإنصات الفعال، فالحديث طويل، وهو عبارة عن حكاية عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في جلسة صافية عن إحدى عشرة امرأة في الجاهلية اجتمعن وتعاهدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، تقص كل واحدة منهن أخبار زوجها وصفاته وأحواله معها، منهن من تزكي ومنهن من تذم، وكان آخر حديث النسوة هو ما تكلمت به امرأة يقال لها أم زرع، تزوجت من رجل أكرمها أيما إكرام، وامتد كرمه وعطاؤه ليشمل كذلك أهلها، وتحدثت عن شيمه وخصاله، ثم حدث أن طُلقت وتزوجت بآخر، لكنه مهما يفعل معها من خير فلن يضاهي شيئاً مما كان يصنعه أبو زرع زوجها السابق.
فليتخيل الرجل معنى أن تقص عليه زوجته أحد عشر خبرًا دفعةً واحدة، كيف سيكون حاله؟! هنا في الحديث دلالات على الإنصات الفعّال، فعائشة قد استرسلت وأسهبت في طمأنينة؛ ما يعني أنها لم تلحظ أي أمارة استياء على وجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل على أنه كان يظهر عليه الإنصات في اهتمام، لم يقاطعها في حديثها، وانتظر إلى نهاية كلامها، ثم بدأ في التعقيب ملاطفًا: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع»(1)، فعقّب بما ينم عن استيعابه لكل مضامين الحديث، فالمرأة بحاجة إلى من يستمع إليها، وليس هناك أقرب من الزوج في القيام بمهمة الإنصات الفعال.
استيعاب الغيرة:
غيرة المرأة أمر فطري في الرجال والنساء، ولكن نظراً لطبيعة المرأة، فقد تخرج بها الغيرة عن حد المعقول وإدراك العواقب، ومن ثم تحدث المشكلات.
غيرة المرأة دليل على محبتها زوجها، يقول النووي: «الغيرة في النساء لفرط المحبة»(2)، وكانت عائشة تغار على النبي صلى الله عليه وسلم غيرة شديدة لمحبتها إياه حبًا عظيمًا، وتحكي هي عما يدل على شدة غيرتها عليه فتقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة، وحفصة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك، تنظرين وأنظر؟ فقالت: بلى، فركبت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر، وتقول: يا رب سلط عليَّ عقرباً أو حية تلدغني، ولا أستطيع أن أقول له شيئاً(3)، فكيف تصرف النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرة عائشة؟
عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمكم»، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت(4).
ففي هذا الحديث لم يعنّف عائشة، واستوعب غيرتها، بل برّر صنيعها بمقتضى الفطرة حتى لا يقع فعلها موقع المذمة قائلاً: «غارت أمكم»، وفي تفسير الحديث يقول ابن حجر العسقلاني: وقوله «غارت أمكم» اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة، فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها(5).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذا الاستيعاب، يعمد إلى تهدئة روعها وطمأنتها ولا يتركها فريسة للغيرة، ففي إحدى ليالي نوبتها، قام النبي صلى الله عليه وسلم من فراشه، فتبعته عائشة ظناً منها أنه سوف يذهب إلى بعض أزواجه، فعلم أنها كانت تتابعه، فقال لها: «فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ»(6).
التواصل العاطفي:
ويكون بالكلمات المعبرة عن المحبة، وبالملاطفة التي تشبع عاطفة المرأة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستنكف أن يعبر عن حبه لعائشة على رؤوس الأشهاد، فقد سئل عن أحب الناس إليها فأجاب: «عائشة»(7)، وكان حبه إياها معروفاً للقاصي والداني، فكَانَ مسروق إذا حدث عَن عائشة قَالَ: «حدثتني الصَّدّيقة بِنْت الصَّديق، حبيبة حبيب اللَّه»(8).
وكان يلاطفها بالاغتسال معها، والدخول معها في سباق الركض رغم كثرة أعبائه، ويشرب من الموضع التي تشرب منه وهي حائض كما صح عنها: «كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ»(9)، فمزاج الحائض يكون سيئاً فترة الحيض وتحتاج إلى هذه الملاطفة والتواصل العاطفي، وهذا يمثل قمة الاستيعاب.
التغافل:
خلق التغافل ليس ضعفاً، إنما ينم عن حكمة وثقة بالنفس وفهم للطبيعة البشرية، وتغافل الرجل لا يضر بهيبته، وهو خلق محمود طالما أنه لن يقر باطلاً أو يجحف حقاً، فليس كل خطأ للمرأة يستوجب العتاب والتقريع، خاصة إذا كان مما لا تستطيع دفعه، وليس أدل على تغافل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة، من حديث النعمان بن بشير، قال: استأذن أبو بكر رحمة الله عليه على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناولها ليلطمها، وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله؟! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضباً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: «كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟»(10).
هذه أبرز مظاهر استيعاب الرجل زوجته واحتياجاتها مما يدفع الخلافات أو يمنع حدوثها، من خلال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والمثل في كل الأمور، فعلى الرجل إدراكها والتعامل بمقتضاها.
________________________
(1) البخاري (5189)، ومسلم (2448).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 203).
(3) صحيح البخاري (5211)، ومسلم (2445).
(4) صحيح البخاري (5225).
(5) فتح الباري، لابن حجر (5/126).
(6) صحيح مسلم (974).
(7) البخاري (3662)، ومسلم (2384).
(8) تاريخ الإسلام، الذهبي (2/ 509).
(9) صحيح مسلم (300).
(10) سنن أبي داود (4999).