من أبغض الصفات عند الله تعالى الفُجْر في الخصومة، وترويع الناس لمجرد موقف خالفوا هوى المخاصم فيه، وقد جعلها الله عز وجل خصلة من خصال المنافقين إذا اجتمعت مع غيرها كان منافقاً خالصاً، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (أخرجه البخاري ومسلم).
فكيف يلقى رمضان من امتلأ قلبه بالبهتان عن الناس فخاض في أعراضهم، وانتقص حقوقهم، واختلق الأكاذيب ليشوه صورتهم، وتنابز بالألقاب معهم، وشرع في نشر الشائعات ضدهم فقط ليرضي نفسه ويقتص فيما ليس له بحق حين يقع خلاف ما بينهم، وهو صورة من صور دناءة النفس وخبثها لا تليق بمسلم يحمل شيئاً من الإيمان والمروءة بقلبه، بل صفة من لا يخشى الله ويتقيه، فيقول الله عز وجل: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج: 30).
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ» (متفق عليه).
والفُجر في الخصومة قصاص للنفس في غير محله فيه خصلة من خصال الكِبر، أو رد فعل مبالغ فيه وغير أخلاقي تجاه مشكلة حدثت لمسلمين فيخلط أحدهما الأوراق يدفعه -من باب الكِبر- لإيذاء الطرف الآخر نفسيًا واجتماعياً وتشويه سمعته بين الآخرين تشفياً وانتقاماً.
الفُجر في الخصومة على الفرد والمجتمع
والفُجر في الخصومة شر كله لا يليق بمسلم لا في رمضان أو غير رمضان، له الكثير من التبعات الخطيرة النفسية والمادية على كافة المستويات الإنسانية سوف نتناولها تفصيلاً:
أولاً: على الفرد:
– تثير الغضب الذي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لا تغضب»، فردّد، قال: «لا تغضب» (رواه البخاري)، والغضب مثير للانفعال وما يترتب عليه من اندفاع واختيار أسوأ الألفاظ، وأكثرهم سوءاً الذي لا يردعه الزمن أو يدفعه لمراجعة موقفه والتوقف عن المضي قدماً نحو المزيد من توجيه السباب والفحش وسوء الخلق انتصاراً للنفس بالباطل.
– ومن تبعات الفُجر في الخصومة التعلق بالدنيا وطلب الاستزادة منها كي يتسنى له أن يزيد في الانتقام فينسى الآخرة وما يقرب إليها من قول أو عمل، ويبتعد عن مصاحبة الصالحين لأنهم بأخلاقهم يذكرونه بدناءة نفسه وبطلان مذهبه، يقول الفضيل بن عياض: «لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) (البقرة: 204).
– مدعاة للكِبر والعُجْب بالنفس والغرور ومنازعة لله عز وجل في ردائه، يتكبر على خصمه ويرفض الانصياع للحق والرضوخ له، تنازعه نفسه في سحقه وإذلاله فيذهب به الذنب مذهباً بعيداً، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس» (رواه مسلم).
– الخصومة توقع في الغيبة المنهي عنها شرعاً، فالغيبة ذكرك أخاك بما يكره، والفاجر في الخصومة يفعل كل ما يكره خصمه، حريص على وصمه بكل سيئ لينفر الناس منه، وفي الحديث: قيل: ما الغيبة يا رسول الله؟ فقال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» (رواه مسلم)، ووصفه الله عز وجل بقوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات 12).
– الفُجر في الخصومة مدعاة للخوض في الأعراض الموجب للحد في دولة الإسلام، ويدخل في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19)، والشريعة حكمت بحد القذف على من يرمي محصنة، وأن ترد شهادته ووصفته بالفسق إن لم يأت بأربعة شهداء، ومن حق المقذوف أن يرفع الأمر للقضاء والمطالبة بحقه في جلد القاذف: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 23)، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور).
ثانياً: على المجتمع:
1- إن أثر الفُجر في الخصومة على المجتمع أشد وطأة من أثرها على الفرد، فهي مدعاة لانتشار الكثير من أمراض القلوب لتصير ظاهرة تفتت القيم العليا في المجتمع إن لم يتم قتلها في مهدها والوقوف بقوة لمن يغالي في خصومته ويحيلها حرباً لا حد لها ولا رقيب، ومن أهم آثارها السلبية على المجتمع أنها مدعاة للتحسس والتجسس على الناس لإثبات تهم باطلة عليهم وسوء الظن بهم مما يوقع صاحبها في الكبائر دون أن يشعر فيدمر ذاته ويدمر غيره.
إذ عليه في خصومته وقد عمي قلبه أن يبحث ليثبت ما يدعيه فيقع في حرمة تتبع عورات الناس، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات: 12)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لأبي هريرة: «لا تحسسوا ولا تجسسوا» (رواه البخاري ومسلم)، ولو أن كل إنسان ظن بأخيه سوءاً فأخذ في البحث لإثبات ظنه لأصابت هذا المجتمع الفوضى والأمراض القلبية التي تنخر فيه كالسوس لا تتركه إلا غابة يأكل القوي فيها الضعيف!
2- ومن أثر الخصومة على المجتمع أنها مدعاة لقطع الأرحام، فما ينتج عنها من فضح بين الناس وكسر للنفوس وقتل للثقة لا يمكن نسيانه في جلسة صلح واحدة، والأمر لن يتعلق وقتها لأن تكون خصومة بين اثنين، فسوف يتدخل فيها عائلتان، وقد يكبر الأمر ليكبر أكثر من ذلك لتمتد الخصومة ولسنوات يموت خلالها من يموت وهو قاطع لرحمه بسبب فرد واحد فسد قلبه ففسدت أخلاقه وأفعاله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» (رواه مسلم والترمذي).
3- انتشار آفات الحسد والكراهية والحقد والغل والرغبة في الانتقام، وكل تلك الأمراض لها خطورتها على المجتمع، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك»، ومن الملاحظ أنها جميعها أمراض قلبية لا ينبني عليها عمل ما، لكن الإسلام في الأساس أتى لتطهير القلب ثم ضبط السلوك الإنساني لتصير المجتمعات صالحة للبقاء بعيداً عن الفوضوية.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا (رواه مسلم)، وأنى للفاجر في خصومته أن يعرف الحب لمن خاصمه؟! وأنى لمن وقع عليه الظلم أن يرد مظلمته بالحب؟!
4- ومن أشد الخصومات تأثيراً على المجتمعات المسلمة الخصومة بين مسؤول ما مع مسؤوليه، ورئيس مع مرؤوسيه، فالفُجر في الخصومة يدفعه لاستخدام نفوذه ليشفي صدره منه بالانتقام غير المبرر وبغير حق؛ فتنتشر جريمة الظلم في المجتمع، يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا) (الفرقان 19)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»، ويقول عليه الصلاة والسلام: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه»، ولن يستطيع مجتمع أن يسير بشكل طبيعي في الوقت الذي يتعرض أبناؤه للظلم والعقاب بغير ذنب لمجرد أن الظالم قادر على إنفاذ غضبه.
فيا طلاب الجنة، ويا من تهيئون أنفسكم لاستقبال رمضان، اسمعوا حديث نبيكم صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الطيبة صدقة» (أخرجه مسلم)، فكم من صدقات ضيعها الغضب!
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام» (أخرجه الترمذي)، وهو ما ينافي الفُجر في الخصومة بين الناس.
وقال عليه الصلاة والسلام: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة» (متفق عليه).