الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
من القواعد التربوية الهادفة «التربية بالقدوة»، وهي قمتها وأعلاها ولُحمتها وسداها؛ لأن الأفعال أعلى رأساً من الكلمات، وأثبت قدماً من الشعارات، وتربيتك لولدك تكون بقدوتك له.
لقد كسب عبدالله بن عباس رضي الله عنهما الأمجاد من أقطارها وديارها حين صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم القدوة في رحابه صغيراً، وشبَّ عليها كبيراً، والمعالى لا تعترف بالأعمار ولا يعجز عن ارتقائها الصغار، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة صالحة جعلها الله متجددة على مر الأجيال، وميزاناً أعلى للأقوال والأفعال؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).
ومن يطالع الواقع البئيس في أغلب المجتمعات اليوم، إلا من رحم الله، يجدها تعاني انفصاماً نكداً في شخصية الطفل بين التوجيه النظري والفعل العملي.. أما حبر الأمة ابن عباس فتربى على السلوك القويم والشخصية المتزنة والنفسية الملتزمة، وعايش القدوة ممارسة لا مدارسة؛ وبينهما أمد بعيد وبون كبير.
ليلة هنية بصحبة خير البرية
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَتَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءاً بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، وَلَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَنْتَبِهُ لَهُ، فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَأَتَاهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ: «اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوراً، وَفِي بَصَرِي نُوراً، وَفِي سَمْعِي نُوراً، وَعَنْ يَمِينِي نُوراً، وَعَنْ يَسَارِي نُوراً، وَفَوْقِي نُوراً، وَتَحْتِي نُوراً، وَأَمَامِي نُوراً، وَخَلْفِي نُوراً، وَعَظِّمْ لِي نُوراً» (صحيح مسلم، 1/ 529).
«التربية بالقدوة» أعلى رأساً من الكلمات وأثبت قدماً من الشعارات وتربيتك لولدك تكون بقدوتك له
في هذا الحديث الشريف عدة دروس دعوية وتربوية مهمة يتعلم منها الآباء والأمهات، منها:
1- أن هذه ليلة كريمة في حياة صبي مسلم عاش رسالة الإسلام بعقله وقلبه؛ فضحَّى من أجلها بالغالي والنفيس، وتعامل مع الحياة بميزان حساس، وحاسب نفسه بالأنفاس، وجعل لكل وقت عبادة، وعاش لحظات عمره في طاعة.
ففي الوقت الذي يلهو فيه الرفاق، ويضيعون الأعمار والأوقات فيما مضى وما هو آت، ممن لا يخلو منهم عصر ولا مصر، إلا من رحم الله، يجعل ابن عباس سلواه في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجوة الليل، وإن كان قد تعلم الفرائض في النهار فلم يفته أن يعرف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل؛ ليكون سفيراً يعلِّم الأمة هدي المعصوم وهو يناجي الحي القيوم، وكان من الممكن أن يسلّم جنبيه إلى النوم، ويخلد إلى الراحة، لكنه ضحى بالنوم الهنيء ليعلِّم الأمة هدي النبي صلى الله عليه وسلم
2- حسن التربية والتوجيه وسعة صدر المربي عند الخطأ، وهذا منهج عظيم في معاملة المخطئين؛ «فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه»، فالإسلام يعالج باللين لا بالشدة، بالمرهم لا بالمشرط، بالقدوة في الحركات والسكنات لا الرجم بالعبارات والكلمات.
وهذه لفتة كريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لربانيّ الأمة يتعلم منها من يتصدرون زمام الدعوة وبضاعتهم قليلة وهمتهم كليلة وبصرهم عليل، يستكثرون من الكلام رد السلام ومن التوجيه امتشاق الحُسام!
فما أحوجنا إلى أن نعلِّم أولادنا، ونصبر عليهم، ونرأب الصدع، ونقيل العثرة، ونصوب الخطأ! وكثير من أولادنا يجهل كيفية الوضوء والصلاة وشعائر الإسلام؛ فهل من توجيه رشيد؟!
ثم علينا أن نتعلم من منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في معالجة الأخطاء؛ فتارة كان يرشد المخطئ بالتوجيه المباشر، وتارة بالتعريض، وأخرى بالتأنيب، وغيرها من الأساليب التربوية التي تزخر بها السُّنة المطهرة، وينادي بتطبيقها أرباب الصناعة من علماء التربية والتعليم في مختلف أماكن الدراسة وقاعات البحث.
3- استحباب قيام الليل؛ فهو ديدن الصالحين ودأب المقربين، وبيان أفضلية الدعاء وقت السحر، فهو مظنة القبول والاستجابة، قال جل ثناؤه: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {16} فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة)، فكم خرَّجت مدرسة قيام الليل من رجال عظماء فتح الله على أيديهم الفتوح وعظمت المقدسات!
نلتمس لأولادنا المعلم القدوة الذي يعلّمهم من سمته وأفعاله قبل بيانه حتى يكونوا نماذج صالحة
ثم انظر ماذا ترى؟ لو جعل الإنسان لنفسه في كل أسبوع مرة يصلي فيها قيام الليل مع أولاده، ويحثهم على الدعاء بالنصر والتمكين لهذا الدين، وأن يسلط الله تعالى سيف انتقامه على الظالمين اقتداء بالنبي الأمين، وتعويدهم على الأذكار النافعة والدعوات الضارعة، وثمارها اليانعة؛ ففيها استقامة الحال وراحة البال والفوز يوم المآل.
ولننظر إلى كَمّ الرحمات والبركات التي تنساب في رحاب هذا البيت الطهور!
4- دور الوالد الفطن اللبيب (العباس رضي الله عنه) الذي دفع ولده إلى البيئة النبوية العطرة ليرتشف من روح الحكمة وريحانتها من فم المعصوم صلى الله عليه وسلم ما يصلح الله به المعاش والمعاد.
ثم أين منه هؤلاء الذين أهملوا في تربية الأولاد حتى إننا نرى بعضهم يضن على أولاده بالوقت فيعطيهم الفتات ربما قبل أن يخلد إلى الراحة والنوم، ويفني عمره في الأشغال والارتباطات فيضيع الأولاد في لجة الحياة ويبتلعهم اليم، يخرجون بلا استئذان ويلهون بالليل مع رفاق السوء؟!
أحريّ بنا أن نلتمس لأولادنا المعلم القدوة الذي يعلّمهم من سمته قبل نطقه، ومن أفعاله قبل بيانه، حتى يكونوا نماذج صالحة تسرّ الناظرين وتنير دروب السائرين!