يقول صاحب هذا السؤال: إن لديه صديقاً يريد الدخول في الإسلام إلا أنه عندما علم أنه يجب أن يصوم، ومن ثم يمتنع عن الطعام والشراب أحجم عن ذلك؛ لأنه يشرب القهوة باستمرار ويعتبرها بالنسبة له دواء من صداع لكونه يعاني من الشقيقة والصداع فهي بمثابة العلاج له.
مثل هذه الحالات تحتاج منا إلى شيء من التفصيل حتى نكون على بينة من أمرنا.
أولاً: إن أعظم نعم الله على عبده، وهي أيضاً علامة سعادته وفلاحه: أن يوفقه ربه للإسلام، ويشرح صدره للإيمان به، قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125)، قال الشيخ السعدي رحمه الله: «يقول تعالى مبيناً لعباده علامة سعادة العبد وهدايته، وعلامة شقاوته وضلاله: إن من انشرح صدره للإسلام، أي: اتسع وانفسح، فاستنار بنور الإيمان، وحيي بضوء اليقين، فاطمأنت بذلك نفسه، وأحب الخير، وطوعت له نفسه فعله، متلذذاً به غير مستثقل، فإن هذا علامة على أن الله قد هداه، ومَنَّ عليه بالتوفيق وسلوك أقوم الطريق.
وإن علامة من يريد الله أن يضله، أن يجعل صدره ضيقاً حرجاً، أي: في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين، قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات، فلا يصل إليه خير، لا ينشرح قلبه لفعل الخير، كأنه من ضيقه وشدته يكاد يَصَّعَّدُ في السماء، أي: كأنه يكلف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه.
وهذا سببه، عدم إيمانهم، هو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان، وهذا ميزان لا يعول، وطريق لا يتغير، فإن من أعطى واتقي، وصدق بالحسنى: يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسييسره للعسرى»(1).
ثانياً: ليعلم أن صيام شهر رمضان ليس بالأمر الهين في دين الله، بل هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وأحد المباني العظام التي ينبني عليها هذا الدين، كما في الحديث المعروف عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (رواه البخاري (8) ومسلم (16)).
وليعلم، أيضاً، أن النطق بالشهادتين، والدخول في الإسلام يعني: أن يستسلم العبد بقلبه وجوارحه لرب العالمين، وأن يؤمن به وبما جاء من عنده، وأن يخضع لربه، ويقبل حكمه وأمره ونهيه، ويصدق خبره، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً {64} فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء).
قال ابن كثير: «وقوله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ: يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهراً؛ ولهذا قال: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا؛ أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حکمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليما كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة»(2).
ثالثاً: إذا فهمنا هذا الأصل العظيم من أصول الإيمان، وهو الانقياد والقبول لكل ما جاء من عند الله تعالى، والاستسلام له باطناً وظاهراً، وعلمنا أيضاً أن صوم رمضان ركن عظيم من أركان الإيمان، لا يصح لأحد إيمانه من غير أن يقبل به، كانت المهمة التالية في دعوة هذا الراغب في دين الله، أن نبين له أنه لا مشكلة أمامه تمنعه من الدخول في الإسلام، وأن الله تعالى ما جعل على عباده حرجاً في دينهم، بل يسَّره عليهم، ورفع عنهم ما يوقعهم في الحرج والمشقة.
فإذا كان هذا الرجل يشرب القهوة لأجل ما يصيبه من الصداع والشقيقة، فبإمكانه أن يأخذ القسط الكافي من ذلك في أثناء الليل، حتى إذا بدأ الصيام في النهار: امتنع عن ذلك حتى غروب الشمس، وبإمكانه أيضاً أن يستعين بالأدوية المساعدة على الشفاء من صداعه، أو تخفيف آثاره.
على أنه من المعلوم أن المريض الذي يشعر بمرضه أثناء النهار، ويتأثر مرضه بالصوم، من المعلوم أن مثل هذا معذور في دين الله، فإذا أصابه الصداع، واحتاج إلى الدواء، ولم يستطع الصوم أمكنه أن يفطر ذلك اليوم، ثم إذا انتهى الشهر يقضي ما أفطره من الأيام بعذر المرض، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183} أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة).
رابعاً: إن الله عز وجل أرحم بعباده من الوالدة بولدها، ومتى أقبل العبد على ربه أقبل الله عليه أكثر مما فعل هو، كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأِ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأِ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (رواه البخاري (7405) ومسلم (2675)).
فكن على ثقة، يا عبد الله، أنك متى أقبلت على الله بصدق، أقبل الله عليك، وجبر كسرك، ويسر لك أمرك، وشرح صدرك، وكفاك شر ما أهمك، وأعانك من حيث لا تحتسب، فلعل الله أن يشفيك من دائك، ولعله أن يغنيك ويصرف عنك ذلك الإدمان لما تشربه، فأقبل على الله، وأحسن الظن بربك، وألق عليه حاجتك، لكن شريطة أن تكون جادا في الانقياد لأمر الله، والقبول لما جاء من عنده. قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل).
خامساً: ليعلم أنه متى صدق العبد في إيمانه بربه، ثم عجز عن بعض التكاليف، أو غلبته نفسه وشهوته، فوقع في معصية، أن المعصية ليست نهاية الطريق، بل باب التوبة والإنابة إلى ربه مفتوح، ثم هو –على معصيته- في محل العفو من الله، والرجاء بالتجاوز عن ذنبه وزلته، لكن المشكلة التي لا حل لها هي أن يبقى على شركه وإعراضه عن دين ربه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا) (النساء: 48)(3).
____________________
(1) تفسير السعدي (272).
(2) تفسير ابن كثير (2/ 349)
(3) فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الثانية (9/ 145)، بتصرف.