الابتلاء هو الامتحان والاختبار، فالله عز وجل خلق الخلق ليمتحنهم ويختبرهم أيهم أحسن عملاً، وهذا الابتلاء حقيقة كونية لازمة فطر الله تعالى عليها الكون، وجعله ناموساً كونياً، وقانوناً حتمياً لهذا الوجود، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: 2).
أولاً: البلاء ضرورة حتمية:
فطر الله عز وجل هذا الكون على الابتلاء والامتحان للناس جميعاً، فرداً فرداً بلا استثناء لمخلوق واحد، فلا يخطرنَّ ببال إنسان أن بإمكانه الإفلات من الابتلاء بذكاء أو نفاق، أو ظلم أو خيانة، أو حيلة يحتالها، فأقدار الله مرسومة، وأرزاقه مقسومة، وأحكامه مقطوعة، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: 4)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ) (الانشقاق: 6).
قد يتصور إنسان أن الاحتيال أو النفاق أو الخداع، وما شابه، ملاذ من المشقة والعناء، وقد يكون للإنسان حيلة في الهروب من البلاء والابتلاء، وهذا محض أوهام، يكشفه الله سبحانه بقسم واضح لا شك فيه (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)، فهذه طبيعة الحياة، وهذا ناموس الوجود الذي لا مهرب منه لموجود، فالمكابدة والمعاناة هما طبيعة الحياة، يقول صاحب «الظلال»: «يا أيها الإنسان إنك كادح حتى في متاعك؛ فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد، إن لم يكن جهد بدن، وكد عمل، فهو جهد تفكير، وكد مشاعر، الواجد والمحروم سواء، إنما يختلف نوع الكدح، ولون العناء، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان، ثم النهاية في آخر المطاف سواء.
يا أيها الإنسان إنك لن تجد الراحة في الأرض أبداً، إنما الراحة هناك لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام».
وجاءت نصوص القرآن الكريم والسُّنة المطهرة مترادفة متتابعة معلنة في جنبات الوجود وآفاق السماء أن البلاء والابتلاء حقيقة واقعة لا مفر منها، ولا مهرب منها، قال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران: 186).
وجاء مطلع سورة «العنكبوت» ليرسي دعائم هذه الحقيقة التي يشك فيها الكثير، ويوقن بها القليل، قال تعالى: (الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت).
فالابتلاء من أقدار الله المحتومة التي لا مفر منها ولا مهرب، لا ينجي منها نفاق ولا خيانة، ولا كذب، فاستقم كما أمرت، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك.
قال ابن الجوزي، في كتابه «الثبات عند الممات»: «ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم يَضِقِ العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني الـمحن إلى أن خرج من الدنيا، وإبراهيم يكابد النار وذَبْحَ الولد، ويعقوب يبكي حتى ذهب بصره، ويوسف يُلقى في البئر، ويعيش كعبدٍ، ويُسجن، وموسى يقاسي فرعونَ ويَلقى من قومه المِحن، وأيوب يموت أولاده جميعًا، ويُبتلى بمرض يُقْعِده عن الحركة وينفق عليه كل ماله، وعيسى لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وسلم يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة، ونفور قومه عنه».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمحن كالحر والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها لم يغضب لورودها، ولم يغتم لذلك، ولم يحزن».
ثانياً: أنواع الابتلاء:
الابتلاء يكون بالسراء كما يكون بالضراء، ويكون بالفقر كما يكون بالغنى، ويكون بالعافية كما يكون بالمرض، ويكون بالخير كما يكون بالشر، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35).
يقول صاحب «الظلال»: «والابتلاء بالشر مفهوم أمره، لينكشف مدى احتمال المبتلى، ومدى صبره على الضر، ومدى ثقته في ربه، ورجائه في رحمته، فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان، أن الابتلاء بالخير أشد وطأة وإن خُيِّل للناس أنه دون الابتلاء بالشر، إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر، ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير، كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، وقليلون هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة».
وتكمن خطورة الابتلاء بالخير أن صاحبه يحسب أن ما نزل به من جاه، وما حل به من نِعَم الله، وما يرفل فيه من متاع الحياة، ليس إلا لكرامته على الله جل في علاه، وأن رب العباد أكرمه ونعَّمه لصلاحه وتقواه، وربما كان فاجراً فاسقاً ظالماً، وأن الخير الذي نزل عليه من السماء ليس إلا ابتلاء وامتحاناً، أو فتنة واستدراجاً.
ثالثاً: الابتلاء نعمة أم نقمة؟
حين تتوالى المصائب على رأس إنسان، وتحوطه المحن والآلام، يظن كثير من الناس أن هذا بسبب ما اقترفت يداه وما خطته قدماه في المظالم والخطايا، ولكن الإسلام يؤكد حقيقة أخرى، وهي العكس من ذلك تماماً، وهي أن الله عز وجل إذا أحب عبداً ابتلاه، وأن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (رواه الترمذي وابن ماجه).
عن سعد بن أبي وقاص، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من خطيئة» (حديث صحيح، رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم).
رابعاً: الحكمة من الابتلاء:
1- خلق الله عز وجل الوجود ليختبر الناس ويمتحنهم، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
ويبقي السؤال: ولماذا يبتليهم الله عز وجل؟ ونجد الإجابة في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد: 31)، وفي قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
العقيدة السليمة هي السبيل للفوز العظيم، ولا بد للفوز العظيم من امتحان عظيم، فكان ابتلاء رب العالمين للناس أجمعين ليظهر لهم حقيقة قلوبهم، وصدق إيمانهم، حتى لا يدعي الإيمان منافق، أو كاذب، أو ظالم.
يقول سيد قطب: «وحاشا لله أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله».
2- الابتلاء سبيل التمكين: الابتلاء وسيلة ربانية لإعداد المؤمن السليم العقيدة الصحيح العبادة، المهيأ للقيادة والريادة، والأخذ بيد الإنسانية إلى المنهاج الحق المبين، قيل للإمام الشافعي: أيهما أفضل للرجل أن يمكّن أو يبتلى؟ (أي بالضراء)، فقال: لا يمكّن حتى يبتلى، فإنّ الله تعالى ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً، صلوات الله عليهم أجمعين، فلما صبروا (على الابتلاء) مكّنهم، وآيات الكتاب تشهد لهذا المعنى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
3 – الرحمة والتخفيف والتيسير على العصاة يوم القيامة؛ قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30)، قال عليّ رضي الله عنه: «هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل، وإذا كان يكفّر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه؟!».
وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة» (رواه الترمذي)، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بها عنْه، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها» (رواه البخاري).