روى أبو داود، والترمذي، عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دَخَلتُ على عُبادةَ، وهو مَريضٌ أتخايَلُ فيه المَوتَ، فقُلْتُ: يا أبتاه، أَوصِني واجتهِدْ لي، فقال: أجلِسوني، فلمَّا أجلَسوه قال: يا بُنَيَّ، إنَّكَ لنْ تَطعَمَ طَعمَ الإيمانِ، ولنْ تَبلُغَ حَقَّ حَقيقةِ العِلمِ باللهِ حتى تُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه، قال: قُلْتُ: يا أبتاه، وكيف لي أنْ أعلَمَ ما خَيرُ القَدَرِ مِن شَرِّه؟ قال: تَعلَمُ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُنْ ليُصيبُكَ، وما أصابَكَ لم يَكُنْ ليُخطِئُكَ، يا بُنَيَّ، إنِّي سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ أوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ القَلمُ، ثُمَّ قال: اكتُبْ، فجَرى في تلك السَّاعةِ بما هو كائنٌ إلى يومِ القِيامةِ، يا بُنَيَّ، إنْ مِتَّ ولستَ على ذلك دَخَلتَ النَّارَ.
في هذا الموقف دليل على اهتمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرس اليقين في قلوب أبنائهم، واليقين هو التصديق الذي لا يقبل الشك ولا يحتاج إلى تجربة، وقد عرّفه الجرجاني بقوله: اليقين هو اعتقاد الشّيء بأنّه كذا، مع اعتقاد أنّه لا يمكن إلّا كذا، مطابقاً للواقع، غير ممكن الزّوال(1)، واليقين بهذا المعنى من أهم السمات التي تحلى بها الدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية.
اليقين مفتاح الهداية والمعرفة والبيان فمن كان موقناً بربه فإنه يهديه إلى الصراط المستقيم
فلماذا حرصت الحضارة الإسلامية على توطين الدعاة على اليقين في الله تعالى؟
أولاً: اليقين علامة على الإيمان، فمن أركان الإيمان أن نؤمن بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر يعني: اليقين بتقدير الله تعالى الأشياء في القِدم، وعلمه أنها ستقع في أوقات معلومة، وعلى صفات مخصوصة(2)، وقد اهتمت الحضارة الإسلامية بتربية دعاتها على هذا اليقين، ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي، وأحمد، عن عبدالله بن عباس قال: كنتُ رِدفَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فالتفتَ إليَّ فقالَ: «يا غلامُ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أمامَكَ، تَعرَّف إلى اللَّهِ في الرَّخاءِ، يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ، قد جفَّ القلَمُ بما هوَ كائنٌ، فلَو أنَّ الخلقَ كُلَّهُم جميعاً أَرادوا أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يقضِهِ اللَّهُ لَكَ، لَم يَقدِروا عليهِ، أو أرادوا أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يقضِهِ اللَّهُ علَيكَ، لَم يقدِروا علَيهِ»، ففي الحديث دعوة إلى تربية النشء على معاني اليقين في الله والمراقبة له وحسن التوكل عليه.
ثانياً: اليقين هو مفتاح الهداية والمعرفة والبيان، فمن كان موقناً بربه؛ فإن الله يهديه إلى الصراط المستقيم، ويكشف له حقائق الآيات، حيث يقول تعالى: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (البقرة: 118)، وقال ابن القيم: جميعُ منازل السائرين إنما تُفتتحُ بالمحبةِ واليقين، وهما يثمران كلَّ عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم(3).
ثالثاً: اليقين هو السبيل إلى الانتفاع بالآيات، فلا يفتح الله خزائنه إلا للموقنين، حيث قال تعالى: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية: 4)، وقال سبحانه: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ) (الذاريات: 20).
النبي استعان في تربية أصحابه على اليقين بالقصص التي حكاها عن السابقين من المؤمنين
رابعاً: اليقين يهون الصعاب ويحقق الثبات ويبشر بالنصر، ففي مصنف أبي شيبة أن أبا ذر الغفاري لا يكاد يبقى له ولد، فعزاه الناس، فقال: نَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي يَأْخُذُهُمْ مِنَّا فِي دَارِ الْفَنَاءِ وَيَدَّخِرُ لَنَا فِي دَارِ الْبَقَاءِ(4)، فقد أعانه اليقين على الصبر والثبات، بل إن اليقين يحقق الاطمئنان والسكينة، وفي هذا يقول منصور بن عبدالله: إذا استكمل العبدُ حقيقةَ اليقين صار البلاءُ عنده نعمة، والمحنةُ مِنْحة(5)، فإذا قوي اليقين في القلب امتلأ بالشجاعة والإقدام، وهانت أمامه المصاعب والآلام، أما ضعيف اليقين فإنه متخاذل ومتردد ومتشكك في كل ما يقدم عليه، وهذا الصنف من الدعاة قد يكون أكثر ضرراً على الدعوة من غيره، حيث إنه يتخلى عن العزائم، ويبحث عن الرخص، ويضعف أمام الكثير من مواقف الحياة بما لا ينبغي أن يكون منه.
خامساً: اليقين هو السبيل إلى الإمامة في الدين، قال ابن القيم: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)(6).
سادساً: اليقين يدفع إلى العمل والنشاط الدعوي، فهذا سيدنا مصعب بن عمير، الذي كان أترف غلام بمكة بين أبويه، وقد اشتهر في مكة بجمال ملبسه وطيب رائحته، وقد أنعم الله عليه بالإسلام، فكان من السابقين الأولين، ولما طلب أهل المدينة معلماً وداعياً إلى الله؛ أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاش بينهم داعياً ومربياً، وبذل جهداً دعوياً فائقاً، حتى دخل الإسلام إلى كل البيوت في المدينة المنورة، ولم تشغله الدنيا وما فيها من متاع عن رسالته التي يوقن بثمرتها وحسن عاقبتها، فقد نُقل عنه أنه قُتل يوم «أُحد»، ولم يترك إلا ثوباً صغيراً، إذا غطوا به رأسه ظهرت قدماه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غَطُّوا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ»(7).
التربية على اليقين في الله سمة ضرورية للدعاة حتى تكتمل العقيدة في نفوسهم فتطمئن قلوبهم
فإذا كان توطين الدعاة على اليقين في الله تعالى له فاعليته المهمة في البناء الحضاري؛ فما الوسائل التي اعتمدت عليها الحضارة الإسلامية في تربية الدعاة على اليقين؟
أولاً: اغتنام المواقف الحياتية، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه عدي بن حاتم الطائي، فيجد رجلاً يشتكي الفاقة، وآخر يشتكي قطع الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عَدِيُّ، هلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟»، قال عدي: لَمْ أرَهَا، قَالَ: «فإنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ أحَداً إلَّا اللَّهَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَن يَقْبَلُهُ منه، فلا يَجِدُ أحَداً يَقْبَلُهُ منه»، قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ، وكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ ما قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ(8).
فقد اغتنم الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف الذي جاء فيه عدي، وحرص أن يغرس اليقين في قلبه، وهناك الكثير من المواقف النبوية مع أصحابه في الحديث عن المبشرات بانتصار الإسلام والتمكين له، بما يغرس اليقين في نفوسهم ونفوس من يأتي بعدهم إلى يوم القيامة(9).
ويضاف إلى ذلك ما فعله الدعاة في الحضارة الإسلامية من اغتنام المواقف الحياتية في غرس اليقين في الناس، ومن ذلك ما حكاه الرَّبِيعُ بنُ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ حِيْنَ جِيْءَ بِهِ إِلَى الحَجَّاجِ، فَبَكَى رَجُلٌ، فَقَالَ سَعِيْدٌ: مَا يُبْكِيْكَ؟ قَالَ: لِمَا أَصَابَكَ، قَالَ: فَلَا تَبْكِ، كَانَ فِي عِلْمِ اللهِ أَنْ يَكُوْنَ هَذَا، ثُمَّ تَلَا: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22)(10).
ثانياً: الاستعانة بالقصص التاريخية، فقد روى البخاري عن خباب بن الأرت قال: شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: «قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
فقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه على اليقين بالقصص التي حكاها عن السابقين من المؤمنين، حتى يقوي قلوبهم على الثبات والدعوة.
الداعية الذي ملأ اليقين قلبه يتمتع بالثقة الكاملة في ربه والقوة في نفسه والعزيمة والهمة في عمله
ثالثاً: التربية الوالدية، وفيها يقوم الوالد بغرس اليقين في نفس ولده، حتى يرتكز عليها في تكوينه الدعوي، ويدل على ذلك ما ثبت عن محمد بن الحسن بن نصر السوسي، الذي قال: غلا السعر في بلادنا، فقلت لأبي: اشترِ لنا الطعام، فإني أرى أن السعر قد غلا، فقال: ادع لي الخادمة، قال: فدعوتها، فقال لها: اكتالي ما عندنا من القمح، قال محمد: فظننت أنه يشتري لنا ويزيدنا، فعرّفته الخادمة أن عندنا ثمانين مكيالاً من القمح، فقال لها: امضي به إلى السوق، واذهبي إلى الجروي الحنّاط وقولي له: يقول لك الشيخ: بع لنا هذا القمح، ففعلت الخادمة، ثم قال لي أبي: يا بني، إذا كان مُتّكلك على ما في يديك، فما أنت من المتوكلين على الله، يا بني، لا تكن قليل اليقين، فإن من توكّل على الله كفاه(11).
رابعاً: التربية الذاتية، وهي التي يحمل الداعية فيها نفسه على اكتساب الصفة التي يريدها، ومن ذلك ما ورد عن أبي بكر بن أبي الدنيا عن خالد بن معدان، قال: تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن، حتى تعرفوه، فإني أتعلمه(12).
خامساً: الدعاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو باليقين في أغلب دعواته، فعن عبدالله بن عمر قال: قَلَّما كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقومُ من مجلِسٍ حتى يدعُوَ بهؤلاءِ الدَّعَواتِ لِأَصحابِهِ: «اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا»(13)، وعن أبي يزيد المدايني قال: كان من دعاء أبي بكر الصديق: اللهم هب لي إيماناً ويقيناً ومعافاة ونية(14).
من خلال ما سبق، يتبين أن التربية على اليقين في الله تعالى سمة ضرورية للدعاة، حتى تكتمل العقيدة الدينية في نفوسهم، فتطمئن قلوبهم إلى ما قدره الله تعالى، وتشتاق إلى ما أعده لهم، فتهون عليهم المصاعب، وتتصاغر أمام أعينهم الشهوات والرغائب.
إن الداعية الذي ملأ اليقين قلبه يتمتع بالثقة الكاملة في ربه، والقوة في نفسه، والعزيمة والهمة في عمله، فلا يهادن أحداً في الحقوق والواجبات، ولا ينازع على المنصب والجاه، ثم هو يؤمن أن الحق منصور، والباطل مهزوم، فلا ييأس أو يتخاذل عن أي جهد يبذله في سبيل دينه ودعوته، حتى يصل إلى غايته ويحقق هدفه.
______________________
(1) التعريفات، الجرجاني (259).
(2) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر، ابن قيم الجوزية (1/ 29).
(3) مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية (1/ 436).
(4) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 124).
(5) الرسالة: القشيري، ص 322.
(6) مدارج السالكين (2/ 153).
(7) أخرجه البخاري (4047).
(8) أخرجه البخاري (3595)، ومسلم (1016).
(9) راجع كتاب: المبشرات بانتصار الإسلام، د. يوسف القرضاوي.
(10) سير أعلام النبلاء، الذهبي (4/ 337).
(11) رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية، أبو بكر المالكي (2/ 398)، وانظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض (6/ 36).
(12) تاريخ دمشق، ابن عساكر (16/ 198).
(13) أخرجه الترمذي (3502)، والنسائي (10234).
(14) حياة الصحابة، الكاندهلوي، (3/ 186)، وانظر: كنز العمال (2/ 672).