تشكل القيم ركيزة التقدم الحضاري الذي يستند إلى مقومات مادية وسياسية ومعنوية، والقيم والأخلاق والفضائل من المقومات المعنوية التي لا تنفك منها أيّ حضارة، وتمثل القيم الإنسانية القواعد والأخلاق الموجهة للإنسان التي تقوم على احترام كرامته وحريته وحقوقه وصيانة عرضه وماله وعقله، وتتسم بالتسامح والعدالة والمساواة دون تمييز على أساس اللون أو الدين أو القوميات.
الإنسان في أحواله لا تنفك حياته عن فقد عزيز أو فقد مال أو مرض يلم به أو شدة تحيط به، وهكذا الشعوب أيضاً؛ فالنوازل أحداث طارئة أو مستجدة بالمجتمعات في النواحي السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ولا يخلو عصر من العصور من أحداث عظام بمثابة الزلزال العنيف الذي يحيط بها ويُحدث ضرراً قد يمتد أثره زماناً ومكاناً كما هي الحال في الحروب والكوارث البيئية كالزلازل والفيضانات والأعاصير والأوبئة.. وغيرها.
الحضارة الإسلامية اتسمت بنظام أخلاقي إنساني وقت النوازل كالتحلي بالصبر والثبات والنجدة والإغاثة
قيم الحضارة الإسلامية وقت النوازل
اتسمت الحضارة الإسلامية بنظام أخلاقي إنساني وقت النوازل يتناسب مع الحدث، ويساعد في التغلب عليه، والتخفيف من آثاره؛ كالتحلي بالصبر والثبات، والنجدة والإغاثة دون تأنٍ وتراخٍ، وعدم إشاعة عوامل الضعف والانكسار والهزيمة النفسية.
– الصبر والثبات:
تتجلى قيمة الصبر والثبات لمن ينزل بهم البلاء خصوصاً مع استمراره فترة طويلة مما قد يؤدي إلى ضعف القوة النفسية والجسدية، فقد يسخط إن لم يقاوم ذلك الضعف بالصبر والتوكل على الله واللجوء إليه والاستعانة به، يقول سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).
ويشير السعدي في تفسيره للآية أن الله سبحانه أخبر أنه سيبتلي عباده بشيء يسير من الخوف من الأعداء، وبشيء يسير من الجوع؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله أو الجوع كله لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك، وذهاب الأموال والأحباب من الأولاد والأقارب والأصحاب، فهذه الأمور لا بد أن تقع، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين؛ جازعاً وصابراً، فمن وفقه الله للصبر؛ فحبس نفسه عن التسخط قولاً وفعلاً، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له؛ فتكون المصيبة نعمة في حقه، وفاز بالثواب الذي بُشر به الصابرون(1).
والدعاء عند النوازل والتضرع إليه سُنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الأمور المعينة على الصبر والثبات، يقول سبحانه: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنعام: 43)؛ فالخوف والفزع عند النوازل من طبائع البشر مثل البكاء عند المصائب لا ينم عن السخط.
لا يُترك أهل البلاء يتجرعون مرارة الصبر والثبات دون مساعدة فالنجدة والإغاثة من المروءة الإنسانية
وقد مرت على المسلمين شدائد، منها: حصارهم في شِعب أبي طالب 3 سنوات حتى سُمِع أصوات أطفالهم يبكون من شدة الجوع، وفي غزوة «بدر»، و«أُحد»، و«الأحزاب»؛ فلما انتشر الخوف والفزع درجة كبيرة بين المسلمين في غزوة «بدر» أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويتضرع حتى أشفق عليه أبو بكر بقوله: «حسبك مناشدتك ربك»، يقول النووي: قال العلماء: هذه المناشدة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال؛ فتقوي قلوبهم بدعائه وتضرعه(2).
– النجدة والإغاثة:
لا يُترك أهل البلاء وحدهم يتجرعون مرارة الصبر والثبات دون مساعدة، فالنجدة والإغاثة من المروءة الإنسانية، وهي في حق الإخوة في الدين أوجب، كما دلّ على ذلك القرآن والسُّنة، ومن أمثلة ذلك ما حدث للمسلمين في المدينة عام «الرمادة» في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أجدبت الأرض، وأصيب الناس بشدة وهمٍّ وضيق وجوع شديد 9 أشهر؛ فكتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بـ4 آلاف راحلة من طعام فقسمها، وأرسل عمرو بن العاص الطعام إلى المدينة عن طريق البحر حتى صار الطعام بالمدينة كسعر مصر(3).
ومن ذلك أيضاً نجدة يوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب ملوك الطوائف في الأندلس لما أبدوا ضعفاً شديداً وعجزاً عن مواجهة ملك قشتالة؛ فطلبوا النجدة من المرابطين للحفاظ على الأندلس من السقوط مدينة تلو الأخرى؛ فلبى المرابطون النداء، واستطاعوا مع أمراء الطوائف هزيمة النصارى في معركة «الزلاقة» عام 479هـ التي كانت من أيام الإسلام المشهودة، ولها أثر كبير في الحفاظ على الأندلس بيد المسلمين قروناً أخرى(4).
– عدم إشاعة الهزيمة النفسية:
عندما أحاط الأعداء بالمسلمين في غزوة «الأحزاب» من كل مكان ليستأصلوهم، وحاصروهم حصاراً شديداً حتى اضطربت قلوبهم من شدة الخوف والجوع؛ فأخذ المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون ينشرون الجزع والخوف والهزيمة النفسية في قلوب المؤمنين لإضعاف إيمانهم وثقتهم في النصر، وهذه الطائفة أشر الطوائف وأضرها حيث تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، فهم لو أتيحت لهم الفتنة لأتوها، فهم وأمثالهم المعوقون عن القتال.
من أشد النوازل التي تعاني منها الأمة الإسلامية اليوم ما يحدث الآن في غزة من إبادة جماعية
وفي قوله سبحانه: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ) (النساء: 83)، يقول السعدي(5): «إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر».
قيم الحضارة الإنسانية في الوقت الراهن
من أشد النوازل التي تعاني منها الأمة الإسلامية اليوم ما يحدث الآن في غزة من إبادة جماعية تنتهك فيها الكرامة الإنسانية بالقتل والاعتقال والهدم والحرق والتجويع لأكثر من مليوني شخص تحت سمع وبصر العالم على مدار 7 أشهر منذ 7 أكتوبر الماضي، حتى بلغ عدد الشهداء والجرحى ما يقرب من 120 ألفاً.
وتتجلى قيم الصبر والثبات لأهل غزة رغم فداحة الكارثة الإنسانية والمجازر اليومية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني، وتنوعت صور الصبر والثبات لأهل غزة كالتالي:
– الصبر والثبات في ميدان القتال رغم تفوق العدو في العدد والعتاد والأسلحة المتطورة، وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، والدعم القوي من دول أوروبا وأمريكا، إلا أنهم ما زالوا يقاتلون عدوهم بكل شجاعة وثبات.
– الصبر والثبات رغم الخوف والجوع، وفقد المال والمسكن، والمنع من الدواء، وهدم البيوت وتشريد العائلات، وإحباط مخطط التهجير، فالذي ينجو من القتل معرض أن يموت جوعاً أو مريضاً دون علاج.
– الصبر والثبات على فقْد الأهل والأحباب؛ فهناك عائلات أبيدت تماماً بكامل أفرادها، ومنهم من فقد بعض عائلته، أو بعض الأبناء، وهكذا عمت البلوى الجميع، ومع ذلك لم نسمع إلا كلمات الصبر والثبات والرضا بقضاء الله دون جزع وتسخط.
ورغم هذا الثبات والصمود، فإن قيم الإنسانية لم تستطع نجدتهم وإغاثتهم ودفع الظلم عنهم بالعمل على وقف حرب الإبادة التي يتعرضون لها، ورفع الحصار عنهم والمساعدة في إزالة آثار الكارثة الإنسانية التي يعيشونها بتوفير الطعام والماء والدواء والملاذ الآمن، والعمل على توفير سبل الحياة!
________________________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق: عبدالرحمن بن معلا اللويحق، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1422هـ/ 2002م، ج1، ص76.
(2) شرح صحيح مسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة بدر (1779).
(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص374.
(4) عبدالله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1417هـ/ 1997م، ج2، ص315-326.
(5) تيسير الكريم الرحمن، ج1، ص91.