لمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأحزاب وَمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وكان الذي أشار على رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حر، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا(1).
وإننا إذ نقرأ هذا الموقف النبوي الكريم، نقف مع مشورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فهو يطلب منهم الرأي ويشاركهم في الأمر، ولم تكن استشارته صلى الله عليه وسلم من باب الإعلام فقط، بل هي مشورة حقيقية يترتب عليها عمل بالرأي الصائب أياً كان قائله.
وما أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم المشورة من أصحابه حتى بادر الصحابي الجليل سيدنا سلمان الفارسي إلى القيام، وبدأ يتحدث عن تجربة فارسية لم تعرفها الجزيرة العربية من قبل، وهي فكرة حفر الخندق، حيث أعلن عن ذلك بقوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا»، وعند ذلك أسرع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة، وبدأ بتوزيع المهام على أصحابه وتحديد مكان حفر الخندق وحراسته والترتيبات العسكرية المتعلقة به.
إنه قد آمن بالفكرة، وبدأ في تنفيذها، مع أنها ليست فكرته، ولم يقل بها أحد من كبار أصحابه أو من أهل بيته، وفي هذا دلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤسس لأصحابه وأمته من بعده أن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها أخذها، فهو أحق الناس بها.
وهنا يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين اتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة، تحب لهم أن يجمعوا لأنفسهم أطراف الخير كله والمبادئ المفيدة جميعها، أينما لاح لهم ذلك، وحيثما وجد، فالقاعدة الإسلامية العامة في هذا الصدد هي ألا يعطل المسلم عقله الحر وتفكيره الدقيق في سلوكه وعامة شؤونه وأحواله، وإذا كان المسلم كذلك، فهو ولا ريب، لا يمكن أن يربط في عنقه زماماً يسلّم طرفه للآخرين فيقودوه حيثما أرادوا بدون وعي ولا بصيرة، وهو أيضاً لا يمكن أن يتجاهل أي مبدأ أو عمل أو نظام يسلّم به العقل النيّر والفكر الحر وينسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ليتجاوزه ولا يتعب نفسه بأخذه والاستفادة منه، وهذا السلوك الذي شرعه الله للمسلم، إنما ينبع من أصل أساسي هو الكرامة التي فطر الله الإنسان عليها إذ قضت مشيئته أن يكون هو سيد المخلوقات، وما ممارسة العبودية لله تعالى والتزام أحكام شريعته إلا ضمان لحفظ هذه الكرامة والسيادة(2).
وإن الإفادة من الآخرين تتيح للمسلم أن يتعرف على تجارب غيره، وأن يفيد منها في البناء الحضاري للمسلمين، كما تحذره من الوقوع فيما وقع فيه غيره من أخطاء، نتيجة الممارسة العملية أو الظروف البيئية والاجتماعية للمجتمعات.
والناظر في تاريخ الخلافة الراشدة يجد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أخذ بفكرة تدوين الدواوين، وهي فكرة أعجمية لم تعرفها الجزيرة العربية قبل ذلك، ففي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المسلمون هم الجنود، وكان قتالهم لأجل الدين لا الدنيا، لكنهم كانوا إذا غزوا، وغنموا أخذوا نصيبًا من الغنائم قررته الشريعة لهم، وإذا ورد إلى المدينة مال من بعض البلدان أحضر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرّق فيهم حسب ما يراه صلى الله عليه وسلم، وجرى الأمر على ذلك مدى خلافة أبي بكر.
فلما كان عام 15هـ، زمن خلافة عمر، رأى أن الفتوح قد توالت، وأن كنوز الأكاسرة قد ملكت، وأن الأحمال من الذهب والفضة، والجواهر النفيسة والثياب الفاخرة قد تتابعت، فرأى التوسيع على المسلمين، وتفريق تلك الأموال فيهم، ولم يكن يعرف كيف يصنع، وكيف يضبط ذلك، وكان بالمدينة بعض رجال الفرس، فلما رأى حيرة عمر قال له: يا أمير المؤمنين إن للأكاسرة شيئًا يسمونه ديوانًا، جميع دخلهم وخرجهم مضبوط فيه لا يشذ منه شيء، وأهل العطاء مرتبون فيه مراتب لا يتطرق عليها خلل، فتنبه عمر، وقال: صفه لي، فوصفه الرجل، ففطن عمر لذلك ودوّن الدواوين، وفرض العطاء، فجعل لكل واحد من المسلمين عطاءه(3).
وقيل: إن سبب تدوين الدواوين أنَّ أبا هريرة قدِم بمالٍ من البحرين، فقال له عمر: ماذا جئت به؟ فقال: خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، فقال: أتدري ما تقول؟ قال: نعم مائة ألفٍ خمس مرَّات، فقال عمر: أطيِّبٌ هو؟ فقال: لا أدري، فصعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيُّها الناس، قد جاءنا مالٌ كثيرٌ، فإن شئتم كِلنا لكم كيلًا، وإن شئتم عددنا لكم عدًّا، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت الأعاجم يُدوِّنون ديوانًا لهم فدوِّن أنت لنا ديوانًا(4).
ومن التجارب التي تؤكد أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا بها من خلال المشورة، ما كان في نشأة بيت المال، فقد أنشأ عمر بيت المال ولم يكن موجودًا في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أبي بكر رضي الله عنه؛ حيث قضت سياستهما بتوزيع ما يأتي من الأخماس وأموال الزكاة إلى المدينة على من فيها.
وقد رفض عمر في بادئ الأمر الخروج على هذه السياسة، فعندما قال له أحد المسلمين: يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال عدَّة لكون إن كان! فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرَّها، وهي فتنةٌ لمن بعدي، بل أعد لهم ما أمرنا الله ورسوله: طاعة الله ورسوله، فهما عدَّتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون، فإذا كان هذا المال ثمن دين أحدكم هلكتم(5)، بيد أن كثرة موارد الدولة المالية بعد استقرار الفتوح دفعت عمر إلى تغيير سياسته، ووافق على تأسيس بيتٍ للمال يُحفظ فيه الأموال الفائضة عن أعطيات الجند والإنفاق الضروري على مصالح المسلمين.
إن المسلم يعتمد على ما جاءت به الأوامر الإلهية في القرآن الكريم، وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به، وما نُقل إلينا من التراث الإسلامي الزاخر بالخيرات عبر التاريخ، وهذا كله لا يمنع المسلم أن ينظر في تجارب الآخرين وما استطاعوا أن ينجزوه من مظاهر حضارية، حتى ينتفع بها في حياته، ما لم يكن في ذلك مخالفة لشعائر ديننا وشرائعه، أو يكن عندنا ما يغني عنه ويحقق ثمرته.
_________________________
(1) راجع: تاريخ الطبري (2/ 566)، والبداية والنهاية، ابن كثير (6/ 13).
(2) فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، د. محمد سعيد البوطي، ص 218.
(3) تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، د. محمد سهيل طقوش، ص 339.
(4) الأحكام السلطانية، الماوردي، ص 249.
(5) تاريخ الطبري (3/ 615).