جديد الموضوعاأورد الإمام الطبري في تاريخه عن أبي عبيدة العنبري، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الغنائم، أقبل رجل بحُق (وعاء) معه، فدفعه إلى خازن الأموال، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أما والله لولا اللَّه ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد اللَّه وأرضى بثوابه، فأرسلوا وراءه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بْن عبد قيس(1)، وهو التابعي الجليل، الفقيه العابد المقرئ للقرآن الكريم، الذي روى عن عمر، وسلمان، وروى عنه: الحسن، ومحمد بن سيرين، وَأَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ الحُبُلِيُّ وغيرهم، وتُوُفِّيَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ(2).
الداعية بحاجة إلى رعاية قلبه حتى ينمو فيه الإيمان فيثمر طاعة لله وحرصاً على دعوة الناس
إنه يجسد لنا حالة من حالات الدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية؛ وهي حرص الدعاة على زيادة الإيمان بالله، ونعني بالإيمان: معرفة الله تعالى والاعتقاد الجازم بعظمته واليقين في قدرته على الخلق والرزق والموت والبعث والحساب والجزاء.
فإذا عرف الداعية ربه حق المعرفة؛ فقد تسلح بأعظم ما يتسلح به إنسان في هذه الحياة، لأنه يجد أعظم الثمرات التي لا يجدها سواه، إلا من جاء بمثله أو زاد عليه.
فما أهم الأسباب التي دعت الحضارة الإسلامية إلى الحرص على زيادة الإيمان بالله في قلوب الدعاة؟
أولاً: الاستجابة لأمر الله تعالى وتحصيل الثمرات المترتبة على الإيمان:
قال الله تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ) (النساء: 136)، والناظر في الآية يجد أن الله ينادي المؤمنين، ويأمرهم بالإيمان، فما فائدة الأمر لمن تحقق به؟ والجواب: أن الإيمان يحتاج إلى الرعاية والتعهد من أجل بقائه واستمراره وزيادته في النفس، فالداعية في حاجة إلى تعهد قلبه ورعايته حتى ينمو الإيمان في قلبه ويترعرع فيثمر طاعة لله وحرصاً على دعوة الناس إليه، فالمؤمن يزيده الله إيماناً وهداية، حيث قال تعالى: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً) (المدثر: 31)، وقال عز وجل: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) (مريم: 76).
حين يؤمن الداعية بأن الأرزاق والآجال بيد الله فإنه يتخلى عن الجبن ويتحلى بالشجاعة والإقدام
ثانياً: حاجة الحضارة إلى الإيمان:
إن التقدم المادي والإنتاج الصناعي والتفنن في مظاهر الرقي لا يكفي في إسعاد الإنسان واستقراره، فالإنسان روح وجسد، فإذا تركز الاهتمام على أحدهما دون الآخر؛ فسدت الحياة، ولأن الحضارة الإسلامية اهتمت بهما معاً؛ فقد استمرت قروناً عديدة، وقدمت للبشرية أعظم العطايا في حياتها اليومية، وما زالت تحمل في مضمونها ما ينقذ الناس من المادية الجارفة أو الروحانية المترهبنة، وقد استطاعت الحضارة الإسلامية بهذا التوازن بين المادة والروح أن تفتح قلوب العباد قبل البلاد، وأن تستوعب الثقافات والفلسفات المادية المتعطشة إلى الكمال الإنساني.
وقد أكد الله تعالى أن الحضارة القائمة على الإيمان هي التي تستحق التمكين في الأرض، حيث قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
ثالثاً: الفاعلية الدعوية:
كلما ازداد الإيمان في القلب كان باعثاً ومحركاً للداعية على الدعوة إلى الله تعالى، كما أن الداعية حين يؤمن أن الأرزاق والآجال بيد الله، فإنه يتخلى عن الخوف والجبن ويتحلى بالشجاعة والإقدام، ولهذا ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه والأمة من بعده على كفالة الله تعالى للرزق والأجل، ففي صحيح الجامع عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفساً لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ».
ينبغي للدعاة أن يحرصوا على تعلم العلم النافع فهو سبيل إلى تقوية الإيمان وأنفع العلوم القرآن
رابعاً: الحياة الطيبة للفرد والمجتمع:
الإيمان يمنح الفرد الكرامة والسعادة والسكينة والرضا والأمن والأمل والحب والثبات عند الشدائد، كما يمنح المجتمع قوة ورحمة وتضحية وإنتاجاً وفيراً وإصلاحاً كبيراً(3)، وهذه الميادين هي التي يسعى الداعية إلى بنائها وتنميتها والمحافظة عليها.
وإذا كانت الحضارة الإسلامية قد اعتنت بزيادة الإيمان في قلوب الدعاة حتى يثمر ذلك صلاح الفرد والمجتمع، فما أهم الوسائل التي اعتمد المربون عليها في ذلك؟
1- تعلم الإيمان والقرآن:
حرص الدعاة على تعلم الإيمان والبحث عن كل ما يزيده ولا ينقصه، ويدل على ذلك ما ثبت عن جندب بن عبدالله قال: «كنَّا معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ فتيانٌ حزاورةٌ (الغلام إذا اشتد) فتعلَّمنا الإيمانَ قبلَ أن نتعلَّمَ القرآنَ ثمَّ تعلَّمنا القرآنَ فازددنا بِه إيماناً»(4)؛ والمعنى: أنَّهم لمَّا قرؤوا كِتابَ اللهِ وتدارَسُوه فيما بينهم، ازدادَ إيمانُهم، وقوِيَت عقيدتُهم، وهذا معنى قولِه عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال: 2)، فتعلم القرآن يزيد الإيمان، وعن ابن عمر قال: «لقد عِشْنا بُرهةً مِن دَهْرِنا، وإنَّ أحدَنا يُؤْتَى الإيمانَ قبلَ القُرآنِ، وتنزِلُ السُّورةُ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنتَعلَّمُ حلالَها وحَرامَها، وما ينْبَغي أنْ يُوقَفَ عندَه فيها كما تَعلَّمونَ أنتم القُرآنَ»، ثمَّ قال: «لقد رأيْتُ رِجالاً يُؤْتَى أحدُهم القُرآنَ، فيقرَأُ ما بين فاتحتِه إلى خاتمتِه ما يَدري ما أمْرُه ولا زاجِرُه، ولا ما ينْبَغي أنْ يُوقَفَ عنده منه»(5)، فينبغي للدعاة أن يحرصوا على تعلم العلم النافع، فهو سبيل إلى تقوية الإيمان، وأنفع العلوم على الإطلاق هو القرآن الكريم.
على الداعية أن يتعاهد نفسه بالمحاسبة والمساءلة حتى لا ينقص إيمانه فتضعف دعوته
2- الوصية بالإيمان:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذاً بن جبل إلى اليمن، أوصاه أن يحرص على بناء الإيمان أولاً، فقال له: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ..»(6)، وكان الدعاة في الحضارة الإسلامية يقومون بتوصية طلابهم أن يتعهدوا إيمانهم ويعملوا على زيادته، ويحذروا من كل ما يقدح فيه.
فقد قال رجل لابن عباس: أَوْصِنِي، قَالَ: إِيَّاكَ وَالنُّجُومَ، فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْكِهَانَةِ(7)، وجاء رجل إلى عبدالله بن مسعود فقال: أَوْصِنِي بِكَلِمَاتٍ جَوَامِعٍ نَوَافِعٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللهِ: اعْبُدِ اللهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً(8)، وعن هَرِم بن حيان أنه قيل له: أوصنا، فقال: أوصيكم بخواتيم سورة «البقرة»(9) ففيها الدعوة إلى الإيمان بالله، وذلك في قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (البقرة: 285).
3- كتابة الرسائل الداعية إلى الإيمان:
حرص العلماء في الحضارة الإسلامية على تربية الدعاة وتوجيههم إلى حسن الإيمان بالله تعالى والبراءة من كل ما ينقص منه أو يخالفه، من خلال أسلوب كتابة الرسائل الدعوية، فقد كتب معاوية بن أبي سفيان إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقال: أَوْصِنِي وَلَا تُطِيلِي فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ طَلَبَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنَ الْتَمَسَ سَخَطَ اللَّهِ بِرِضَا النَّاسِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَالسَّلَامُ»(10).
الحضارة الإسلامية حرصت على إعداد الدعاة إيمانياً لتكون صلتهم بالله قوية ودعوتهم أكثر فاعلية
4- التعاون بين الدعاة لزيادة الإيمان:
يلتقي الدعاة إلى الله تعالى ويأخذ بعضهم بيد بعض إلى زيادة الإيمان، حيث كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: «هَلُمُّوا نَزْدَدْ إِيمَاناً»(11)، وعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: قَالَ لي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: «اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً»(12)، وكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَأْخُذُ بِيَدِ النَّفْرِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: «تَعَالَوْا فَلْنُؤْمِنُ سَاعَةً، تَعَالَوْا فَلْنَذْكُرُ اللَّهَ وَلْتَزْدَادُوا إِيمَاناً، تَعَالَوْا نَذْكُرُ اللَّهَ بِطَاعَتِهِ، لَعَلَّهُ يُذْكُرُنَا بِمَغْفِرَتِهِ»(13)، وقال ابن القيم: «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا واشتاقوا إلى حادٍ يَحدُو بهم ليَطِيب لهم السيرُ، ومُحرِّكٍ يُحرِّك قلوبَهم إلى محبوبهم، أمروا واحداً منهم يقرأ والباقون يستمعون، فتطمئن قلوبهم، وتَفيِضُ عيونُهم، ويجدون من حلاوة الإيمان أضعافَ ما يجده السماعاتية من حلاوة السماع»(14).
5- محاسبة النفس:
على الداعية أن يتعاهد نفسه بالمحاسبة، حتى لا ينقص إيمانه فتضعف دعوته، فعن أبي الدرداء قال: «إن مِنْ فِقْه الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ إِيمَانُه وَمَا نَقَصَ منه، وَمِنْ فِقْه الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَيَزْدَادُ الإيمان أَمْ يَنْقصُ»(15).
6- الدعاء:
الله سبحانه وتعالى بيده مفاتيح القلوب، وهو يعطي الإيمان لمن يحب، ولهذا كان عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ زِدْنِي إِيمَاناً وَيَقِيناً وَفِقْهاً»(16).
إن الحضارة الإسلامية حرصت على إعداد الدعاة إلى الله تعالى إعداداً إيمانياً، يجعل صلتهم بالله تعالى قوية وقلوبهم حية، ودعوتهم إلى الله أكثر فاعلية.
________________________
(1) تاريخ الرسل والملوك، الطبري (4/ 19).
(2) سير أعلام النبلاء، الذهبي (4/ 19).
(3) راجع: الإيمان والحياة، د. يوسف القرضاوي.
(4) سنن ابن ماجه (61).
(5) رواه الحاكم في المستدرك (101).
(6) أخرجه البخاري (1496).
(7) الشريعة، الآجُرِّيُّ البغدادي (5/ 2506).
(8) مصنف ابن أبي شيبة، (6/ 155)، وحلية الأولياء، (1/ 134).
(9) محاضرات الأدباء، الأصفهاني، (4/ 154).
(10) سنن الترمذي (2414).
(11) عون المعبود، العظيم آبادي (12/ 292).
(12) مصنف ابن أبي شيبة (34698).
(13) الإيمان، ابن أبي شيبة، ص 44.
(14) الكلام على مسألة السماع، ابن القيم (1/ 101).
(15) الإيمان، ابن تيمية، ص 177.
(16) عون المعبود، العظيم آبادي (12/ 292).