2 صفحة
تنمية أسرية
الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
المرأة التي تصبر على فقْد أنيسها وتربي أولادها لها يوم القيامة عظيم الجزاء
من أمتع وأعذب ما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الألى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
وهذا الكلام ينطبق على أم الإمام البخاري انطباق المفتاح على قفله والكتاب على ختمه، فقد نشأ البخاري يتيماً، مات أبوه وهو صغير؛ فتعهدته أمه بالرعاية والتعليم وحب الطاعات والهدي القويم؛ فشب عف اللسان كريم الخلق، وجعلت من عصامية اليتم دافعاً جعله في مقدمة مصاف الكبار.
فمن هو الذي دوَّت شهرته في الأفاق، وسرى ذكره كما يسري النسيم ليداعب الثمار والأشجار، وكتب الله عز وجل القبول لصحيحه حتى أصبح عنواناً لكتب الصحاح، وخلد الله تعالى ذكره كلما لهجت الألسن بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح مساء؟!
إنه الإمام الرباني أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (194 – 256هـ)، واحد من الربانيين الذين صنعهم الله لخدمة هذه الأمة، من أهم شمائله كرائم الخصال، وكانت متجسدة فيه، تدعو الناس للاقتداء بها، تتبع خطى النبوة وتخلَّق بأخلاقها، حتى كان رأساً يشار عليه، وعالماً يرحل إليه.
روافد التكوين
أولاً: فضل الله تعالى عليه، فهو من الرجال القلائل الذين اصطفاهم الله تعالى لخدمة دينه وحفظ تراث هذه الأمة، فقيَّضه لتتبع سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، فنفى عنها تحريف المبطلين، وتأويل الغالين.
ثانياً: صلاح الأبوين؛ أما أبوه إسماعيل فقد كان حريصاً على العلم، رحل إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وإلى البصرة لسماع حماد بن زيد، والتقى بعبدالله بن المبارك وصافحه بكلتا يديه.
البخاري شب طفلاً بدت على قسماته مخايل النجابة حتى صار من أذكياء الدنيا
وكان له مال كثير، قال عند موته: «لا أعلم من مالي درهماً من حرام ولا درهماً من شبهه»، وبيت هذا قوامه صلاح الأب والمال الحلال فكيف لا يبارك الله في نتاجه؟!
أما أمه فكانت عابدة صاحبة كرامات، رزقت حظاً وافراً من الصلاح والتقوى، مستجابة الدعوة، ذكر العلامة ابن حجر في المقدمة: «إن محمداً بن إسماعيل ذهبت عيناه في صغره فرأت أمه الخليل إبراهيم في المنام فقال لها: يا هذه، قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك، قال: فأصبح وقد رد الله عليه بصره»(1)، إذن فالبيئة والنشأة الصالحتان كانتا من أهم روافد التكوين النفسي والفكري للإمام البخاري، رحمه الله تعالى.
ثالثاً: اليُتم محضن الرجال، ومهد العظماء غالباً، إذ إن رموز العلماء كانوا يتامى، ولنا جميعاً في الهادي البشير صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة، وقد ضربت أم الإمام البخاري مثلاً عظيماً ودرساً كريماً للأمهات، فقد مات أبوه وهو صغير؛ فدفعته أمه إلى العلم وحفظ القرآن الكريم وطلب الحديث الشريف، ثم حجت به ومعه أخوه أحمد، لكنها تركته وحده ليواصل السير والرحلة في الطلب، ولتكن البداية من خير البقاع البلد الحرام، وكان بعد لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره(2).
ولله ما أروعها من أم عاقلة تدفع ولدها ناحية الريح الطيبة! لقد كانت صاحبة الفكرة أن يحج ثم يأخذ العلم من منبعه ورافده الأولى، وهي تعده إعداداً دقيقاً من الحرمين الشريفين، تبدأ الرحلة في طلب العلم والتنقل بين الحواضر الإسلامية، ليعود بعدها لا ليعلم قومه، بل ليعلم الدنيا بأسرها.
إذن، أيها اليتامى، أبواب الكمال أمامكم مفتوحة، فمن فقَدَ أباه أطمح إلى عطاءات الله، وهذا من فضل الله على العلماء في مرحلة التكوين؛ أنه إذا أخذ منهم أعطاهم.
إن المرأة التي تصبر على فقْد أنيسها وتربي أولادها لها يوم القيامة عظيم الجزاء من رب الأرض والسماء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة (وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى) امرأة ذات منصب وجمال آمت من زوجها حبست نفسها على أيتامها حتى بانوا أو ماتوا»(3).
الذكاء والإباء
أي إلهام وأي فصاحة وأي ذكاء وهبه الله تعالى للإمام البخاري! لقد شب طفلاً وقد بدت على قسمات وجهه مخايل النجابة والذكاء حتى صار بحق من أذكياء الدنيا، قال عن نفسه: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فسأله وراقه: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل(4).
قال حاشد بن إسماعيل: كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فلمناه بعد ستة عشر يوماً فقال: قد أكثرتم عليَّ فأعرضوا على ما كتبتم فأخرجناه فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه(5).
علينا أن نحث أولادنا على طلب المعالي ونزرع فيهم الهمة العالية والعزيمة الصادقة
سأله وراقه يوماً في خلوة: هل من دواء يشربه الرجل فينتفع به للحفظ؟ فقال البخاري: لا أعلم، ثم أقبل عليه وقال: لا أعلم شيئاً أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر(6).
إنه النبوغ العلمي والهمة العالية في البحث والصبر والمصابرة على تعلم العلم فضلاً عن الموهبة الجادة في الذكاء والحفظ التي قلما يجود الزمان بمثلها على بشر، إن أمير المؤمنين في الحديث كان ذا نفس تواقة تتطلع بشوق وحب إلى جمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستعذب العذاب، واستسهل الصعاب، وتحمل الأوصاب، فتحرى الدقة في النقل، فدقّق وحقّق وهجر طيب الرقاد من أجل البحث والتأصيل، حتى أصبح في دنيا الناس درة نادرة الوجود.
وأين منه هؤلاء الذين جعلوا النوم خِلّاً، وتضييع الأوقات صاحباً، والكسل رفيقاً ومؤنساً، ومن أراد الترقي إلى سلم المجد فليشمّر عن ساعد الجد، وإلا فهي أحلام أو أضغاث أحلام.
وبعدُ، فالواجب علينا أن نحث أولادنا على طلب المعالي ونزرع فيهم الهمة العالية والعزيمة الصادقة، فنحن بحاجة إلى أن نتقدم بإسلامنا، وأن نتعلم من سيرة سلفنا الصالح؛ علَّنا نحيا من غفلة أو ننجو من عثار!
____________________
(1) هدى الساري مقدمة صحيح البخاري (560)، السير (12/ 393).
(2) المقدمة (560).
(3) مسند الإمام أحمد (6/ 29) رقم (23486).
(4) المقدمة (560)، السير (12/ 393).
(5) المرجع السابق (560).
(6) المرجع السابق (560).