يعيش المسلمون أياماً هي من أعظم أيام الله؛ حيث يتنفس المسلمون نفحة ربانية وتفضلاً من الله الفضيل سبحانه، والعاقل الكيس من تعرض لها، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنَّ لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتَعَرَّضُوا لها»، ومن ضمن هذا الفضل أن نعيش أياماً يُقام فيها ركن من أركان الإسلام، والأيام هنا هي شهر شوال وذي القعدة وعشر ذي الحجة، نتزود فيها بالتقوى لتزيدنا معرفة بالله وليتعرف الحجاج على شعائر الله وليجددوا العهد مع الله وليشهدوا منافع لهم؛ كما قال ربنا: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) (البقرة: 197).
نعيش أياماً طيبة أقسم الله تعالى بها فقال: (وَالْفَجْرِ {1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر)، فهي أيام تبتل وانقطاع لله عز وجل، تأتي مصحوبة بفضائل الله، فكما يتفضل سبحانه علينا في رمضان فيأتي رمضان مصحوباً بالعشر الأواخر منه، ومنه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تفضل بعشر ذي الحجة ومنها يوم عرفة خير يوم طلعت عليه الشمس، وأيام العمل الصالح فيها أعظم من غيرها، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ»، قالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ»، وفي رواية: «فأكثروا فيهنَّ منَ التَّهليلِ والتَّحميدِ والتسبيح والتَّكبيرِ» كل حسب استطاعته يبذل ويَجِدُ في هذه الأيام؛ فهناك من يسر الله له في كثير صلاة وذكر وإنفاق، وآخر يُفتح له في عبادات أخرى بكثير صيام وصلة رحم، وهناك من فتح الله لهم أعظم الأعمال؛ وهو الجهاد في سبيله ضد أبناء القردة والخنازير، بالجهاد بالنفس والمال وبكل شيء.
و«الحج عرفة»، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهو من أحب أيام الله، وأحب الأعمال فيه صيامه، فقد روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده»، ذلك اليوم الذي يؤدَّى فيه الركن الأعظم؛ وهو الوقوف بعرفة، حيث يعترف المسلم بذنوبه فيطلب المغفرة ويجدد العهد مع الله ويعلن توبته، وفيه يباهي الله عز وجل بهم ملائكته.
فما حقيقة الحج ومنافعه؟ وما حقيقة المعرفة في عرفة؟
الحج فريضة جمعت بين الشعائر البدنية التعبدية؛ كالصلاة والصيام ومشقة السفر، والشعائر المعاملاتية؛ ببذل المال، والخُلقية بالصبر والحلم؛ قال تعالى: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: 197)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمه»، وهكذا تتحقق المعرفة والغاية من هذا الدين العظيم في منهجية تُقَوِمُ شخصية المسلم بأن يكون متوازناً في مسيره إلى الله وإلى رضوانه، فيجمع الإيمان بالعمل الصالح، والصلاة بالزكاة والذكر بالشكر.
ومن حقائق المعرفة في عرفات الله أن يعرف المسلمون أن سر قوة هذا الدين في وحدتهم واعتصامهم بخالقهم، وذلك يتحقق في الحج، حين يأتون ملبين تلبية شعارها واحد «لبيك اللهم لبيك»، بملبس واحد كالكفن، يطوفون حول حجر، ويسعون حول حجر، ويقفون حول حجر، ويرمون بحجر في مكان واحد في قمة التسليم والإذعان لأمر الله تعالى.
يعبدون إلهاً واحداً، ويلتفون حول كتاب ومنهج واحد؛ لتتحقق وحدة الأمة التي عَرفَهَا الله فقال: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، جسد واحد بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، بذلك تكمن قوتهم التي غابت، حين غابت الغاية من العبادات والشعائر، والحج يجسد تلك الحقيقة.
ومن حقائق الحج أن نتزود بشحنة روحية عالية جداً في الأيام العشر، نتفرغ نحن للذكر والصوم، ويتفرغ فيها الحاج للعبادة، متجرداً من قيود الدنيا وزخرفها، ومن معركة الحياة التي ضاقت بالناس ليأنسوا بالله فتهدأ النفس بالله؛ (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: 11).
ومن المعارف الجليلة للحج وعرفات الله وعلى هذا الجبل عُقد أول مؤتمر لهذه الأمة، لم يدع له أمير ولا رئيس، إنما دعا ملك الملوك سبحانه فاستجابت الأمة في شتى بقاع الأرض، دُعوا ليلتقوا على كلمة سواء، وقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم وهذا المشهد المهيب في حجة الوداع بعرفة ليعلن فيه مبادئ الإسلام العالمية وحقوق الإنسان، وقرارات عظمى قال فيه، من حديث أَبي بكْرةَ أنَّ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ في خُطْبتِهِ في حجَّةِ الودَاعِ: «إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت؟» (متفقٌ عَلَيهِ).
وقال أيضاً: «لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمَ، وآدمُ من ترابٍ».
ثم ختم على هذه المبادئ السمحة: «ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟»، فقالوا: شهدنا، فقال: «اللهم فاشهد».
يا حبذا لو استُثمرَ هذا المؤتمر ليستفيد منه المسلمون، يتدارسون فيه مشكلاتهم وأولوياتهم وهموم أجيالهم، ويضعون النقاط الحرجة التي تمر بها أمتنا، ويطرحون الحلول العملية ويأخذون الرأي والمشورة من المختصين، يا ليت هذا المؤتمر يكون محضن تربية وتوعية لشباب الأمة! فالحج بمثابة معسكر تربية وبحث لتُتخذ فيه القرارات الحاسمة من العلماء الراسخين وأهل الرأي، لحفظ هويتهم ومقدساتهم وحرماتهم، وموسم يُوَظف للتربية الروحية والخلقية وكذلك العمرة.
حين يتعرف المسلمون على حقيقة الحج والغاية من مناسكه والمراد منها من خلال التسليم والخضوع لله سبحانه، والتعرف على خَلْقِه الذين جمعهم الله من كل بقاع الأرض في عرفات ليعلنوا وحدتهم، وأنهم لن يتخلوا عن ثوابتهم ولا عن مقدساتهم، بذلك أدركوا البوصلة وحقيقة هذا الدين العظيم، وعمق هذا الحدث الجليل (الحج) الذي أُريدَ تغييبه عمداً! فليست المنافع في التجارة والكسب وفي المناسك وفقط، ولكنْ هناك منافع أوسع وأشمل تحتاجها أمتنا في تلك الحال التي تعيشها.
حين ندرك ذلك نعرف حقيقة عرفات الله، وما المنافع المرجوة من الحج، وندرك معنى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج: 28)، وأدركنا حقيقة الحج.