الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأكبر، من أدركه فقد أدرك الحج، ومن فاته الوقوف بعرفات من مطلع فجر يوم التاسع إلى طلوع فجر يوم النحر ولو لدقائق معدودات فقد فاته الحج.
وقد سهل الشرع الحنيف على الناس، فأجاز الوقوف بجبل عرفة أو محيطه فيما عدا بطن عرنة؛ فهي خارج حدود عرفات.
ولا أفضلية للوقوف على الجبل ذاته أو على محيطه، ولا معنى للتدافع والتزاحم وصولاً إلى علو الجبل، فكل ما دخل في حدود عرفة الوقوف عليه سواء.
كما أن حفظ الأنفس المعصومة مقدم على تحقيق الأفضلية الموهومة؛ وهذا معنى ثابت بالسُّنة الصحيحة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف».
وحدود عرفة محددة اليوم بعلامات ظاهرة على الحاج أن يتحرى الوقوف داخلها لا خارجها.
وعلى المسلمين أن ينشغلوا في هذا اليوم المبارك بالدعاء والذكر والعبادات جميعاً؛ تعرضاً لنفحات الله تعالى، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟».
وفي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً».
وهو يوم يدنو الله فيه من عباده فيشملهم بالرحمة والمغفرة، فعن جابر مرفوعاً أيضاً: «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً ضاجين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُر يوماً أكثر عتقاً من النار، من يوم عرفة».
ويوم عرفة هو اليوم المشهود الذي تشهد فيه الملائكة عبادة المؤمنين وضراعتهم، قال تعالى: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ {1} وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ {2} وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (البروج)، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة» (رواه الترمذي).
وعرفة يوم ترسيخ مفهوم الأمة الواحدة؛ حيث تتحد فيه المناسك والمشاعر والملابس والنداء والألم والأمل، يلبس الحجيج جميعاً ثياباً واحدة، وقد جاؤوا من بلاد شتى فذابت الفوارق المصطنعة، وامتزجت الأرواح والقلوب.
وفي احتشاد ملايين المسلمين على صعيد عرفات تعبير آخر عن مفهوم الأمة الواحدة، وكأن عرفة هو المؤتمر السنوي العام للأمة المسلمة.
وفي مشاركة الأمة للحجيج بصوم يوم عرفة واجتماعها عليه شاهد آخر من شواهد الوحدة الإسلامية، كما أن اتساع ذلك الجبل الواحد لملايين المسلمين المجتمعين على صعيده يعطينا رسالة وحدة جديدة؛ فإذا كان الجبل قد اتسع لجموعكم أيها المسلمون، فأحرى بكم أن يسع بعضكم بعضاً محبة وتسامحاً وحسن جوار.
ويوم عرفة يجمع المسلمين على نداء واحد؛ نداء التلبية الذي يفيض توحيداً وطواعية لله وحده؛ «لبيك اللهم لبيك»؛ كلنا عبيدك وحدك نجيب أمرك ونخلع كل أمر خالفه، «لبيك لا شريك لك لبيك»؛ ننفي أن تكون لنا غاية تزاحم عبوديتنا لك، «إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»؛ والحمد من العبد لربه، والنعمة من الرب لعبده، والملك ينفرد به الرب عن جميع خلقه.
وهذا التوحيد الخالص والعبودية الخالصة يجمعان الأمة على كلمة سواء، تسقط أمامها كل دواعي الفرقة وعوامل الشقاق.
ويوم عرفة يوم شدد فيه النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الدماء، فعن أبي بكرة قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر؛ قال: «أتدرون أي يوم هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النحر؟»، قلنا: بلى، قال: «أي شهر هذا؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: «أليس ذو الحجة؟»، قلنا: بلى قال: «أي بلد هذا؟»، قلنا: الله ورسوله اعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليست بالبلد الحرام؟»، قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا؛ إلى يوم تلقون ربكم.. ألا هل بلغت؟»، قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» (فتح الباري).
إنه نداء وحدة ووصية ألفة تركها النبي صلى الله عليه وسلم ميراثاً ونبراساً لأمته حتى تأتلف ولا تختلف، وحتى تعتصم بحبل الله تعالى فلا تفترق، وحتى تخرج من يوم عرفة ومن شعيرة الحج، وقد استعادت فاعليتها وجددت عزيمتها ورجعت بحق أمة واحدة.