لعل أصعب لحظات الإنسان حين يرى حلمه يفلت منه عنوة! بعضهم يستسلم والبعض يحاول الإمساك به حتى في أحلك الظروف.
فهل تخيلت يومًا أن يتخذ معلق صوتي دولاب ملابسه أستوديو لبث صوته عبر العالم؟!
أو هل تصورت في يوم من الأيام أن يُبث صوت على «الساوند كلاود» سُجِّل داخل خزانة؟!
يحيى محمود، شاب غزي لم يسمح لحلمه أن يغادره طويلًا، حين اضطر إلى بيع أدوات التعليق الصوتي التي كانت له بمثابة مصدر دخل، كان ذلك حين اشتدت المجاعة شمال غزة، واشتدت الظروف المعيشية، وخسر الناس بيوتهم وأموالهم وعائلاتهم، ونخر الجوع بطون أهل الشمال.
فرغ يحيى خزانة ملابس من بيتهم، علق على خارجها لوحة كتب عليها «أستوديو الوطن»، وصنع أستوديو داخلها.. أستوديو كامل للتعليق الصوتي، فاستبدل جواله بالمايك، وفي يده يحمل كتابًا به نص يذيعه للعالم بديلًا عن الأجهزة الذكية!
اختار محمود النص الأول الذي يسجله من أستوديو الوطن كما أسماه، عن تحدي الصعاب وعدم الاستسلام للظروف، كي يكون حافزًا له ولكل موهوب في غزة ألا تكون الحرب عائقًا أمامه.
كيف سينقي محمود الصوت؟! سؤال يتبادر لذهنك بمجرد سماع قصة التحدي هذه، ويصيبك الاندهاش حين ترى جوربًا يلتف حول الجوال الذي يسجل عبره الصوت؛ اتخذه ليكون منقيًا للصوت بدلًا من الشبكة الدائرية التي تلتف حول مايك التعليق الصوتي، بمساعدة إسفنجة علقها على الدولاب من الداخل، عدا عن كرتونة البيض التي ألصقها لتساعد في العزل أيضًا، وشعاره «الحاجة أم الاختراع»!
عبارات كثيرة خططها يحيى على قصاصات ورق وعلقها على جدران الدولاب، كان اللافت منها: «حقي أعيش بسلام»، «صوتي يسافر وأنا لا»، «أنت أقوى من كل الظروف»، «أتحدى الصعاب»، «لن يأسروا في الورد عطر الياسمين»، متسائلًا في أخرى: «هل سيصل صوتي للعالم؟»، مؤكدًا أن «أستوديو الوطن» هو صوت كل الناس في غزة.
يقول الشاب محمود: لم أتحمل وأنا أرى أحلامي تذهب مني أن أجعلها تبعد كثيرًا عني، حاولت الإمساك بحلمي أن أكون صوت غزة، وأن أكون معلقًا صوتيًا باسم كل المكلومين في غزة.. ليس فقط في الحرب، بل قبل ذلك حين كان يشتد الحصار المدقع على غزة منذ 17 عامًا ويزيد، أحببت أن أكون دائمًا صوت غزة للعالم.
ويبدي محمود سعادته البالغة أنه استطاع التغلب على الظروف وتحدى الاحتلال الذي يريد أن يقتل أحلام الشعب الفلسطيني ويئد أمنياتهم للوصول إلى العلا، عدا عن أنه أصبح نموذجًا لكثير من الفاقدين شمال غزة، ليعلنوا عدم استسلامهم والركض وراء أحلامهم من بين الرماد والدمار.
ليس الشاب محمود فقط من تحدى الصعاب وأعلنها للعالم بأسره: «لن نستسلم»، فقد سطر أهالي غزة أسمى صور التحدي والصمود والتعالي على الجراح، فبعضهم يزرع وردًا ليحيط ببيته المدمر، وبعضهم اتخذ من ركام بيته مكانًا لبيع منتوجات يصنعها، وآخر يدفن قارورة ماء ساخن في الرمال ليخرجها بعد أربع ساعات مثلجة تروي عطشهم في هذه الأيام الحالكة شديدة الحرارة.
«نيوتن غزة» أيضًا كان نموذجًا يحتذى به في الإبداع الذي يتفجر من بين القتل والموت، هو الطفل حسام العطار (15 عاماً)، الذي حاول إضاءة خيم النازحين في المخيم الذي تنزح إليه عائلته، وهو الذي أنشأ طاحونة لإنارة عتمة المخيم، بعد أن قطعت «إسرائيل» إمدادات الماء والكهرباء والوقود.
وبعد مرور 320 يومًا على العدوان الذي شنه الاحتلال الغاشم على غزة، ما يزال أهل غزة يتعالون على جراحهم رغم ارتقاء أكثر من 40 ألف شهيد وإصابة 70 ألفًا، غالبيتهم من الأطفال والنساء.