(هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) (البقرة: 187)؛ جملتين في كتاب الله من بضع كلمات فقط، تعكس إعجاز القرآن الكريم، وفصاحته العالية، وبلاغته الرفيعة، وتوحي بعديد الصور والمعاني الراقية، وتؤصل لمنهجية متكاملة للعلاقة الزوجية المنشودة التي تفرز بدورها أسرة قوية صالحة تصب في صلاح المجتمع وضمان قوته، ولهذا فالسعيد من تأمل هذه الآية البليغة وعمل بمقتضاها وجعلها نبراساً له؛ لأنه من أسباب سعادة الإنسان وسعادة الحياة الزوجية الالتزام بما جاء في كتاب الله من تعليمات وبما جاء في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم من توجيهات وإرشادات.
آية قرآنية وردت فيها العديد من التفسيرات عند أهل العلم، فقد فسروا اللباس هنا بالستر؛ أي هن ستر لكم وأنتم ستر لهن، وذلك لأن كلا الزوجين يستر صاحبه ويمنعه من الفجور ويغنيه عن الحرام، والعرب تكني عن الأهل بالستر واللباس والثوب والإزار.
كذلك من ضمن التفسيرات هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، وقال آخرون: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن، أي يسكن بعضكم إلى بعض، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (الأعراف: 189)، وفي قوله: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21).
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أسلوب التشبيه، حيث شبه الله تعالى الزوج وكأنه لباس لزوجته، وشبه الزوجة وكأنها لباس لزوجها، ومن خلال الحديث عن أوجه الشبه تتضح عظمة الآية التي عالجت قضية حساسة بأسلوب بديع عفيف دقيق محتشم.
إن وظيفة الثياب الأساسية ستر الجسد، ولقد امتن الله على عباده بأن أنزل عليهم ما يستر سوءاتهم، قال تعالى (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف: 26)، والأصل أن يكون كل طرف ستراً للآخر، لا يفضح عيوبه، ولا يكشف سوءاته، لا سيما حين نشوب الخلاف، ولا يمكن لعاقل سوي أن يكشف ستر زوجته لا سيما عندما يفضي إليها، ففي الحديث «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»، وكذلك لا يمكن لعاقل أن يمزق ثيابه لا سيما عند شدة البرودة؛ ففي ثيابه الدفء المنشود، ولو اشترى ثوباً باهظ الثمن، جميلاً، أنيقاً، وحصل له إتلاف فإنه يعمد إلى إصلاحه وترقيعه لا المسارعة إلى رميه والتخلص منه.
وكما أن اللباس يقي من الحر والبرد، فالأصل أن العلاقة الزوجية حماية ووقاية؛ يقي الزوج زوجته من الوقوع في الفاحشة، وتقي الزوجة زوجها من الوقوع في الفاحشة، فضلاً عن الوقاية الصحية والنفسية.
والجمال إحدى أهم سمات الملبس، ذلك أن الإنسان مجبول على اختيار الثياب النظيفة والأنيقة لأنها تعبر عن حقيقة شعوره، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: «إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً».
ومن سمات الملبس أن يكون بمقاس مناسب، فلو ارتدى شخص ملبساً ضيقاً فلن يشعر بالراحة، وكذا الحال إن ارتدى ملبساً واسعاً فضفاضاً، وفي هذا دلالة على أهمية التكيف الديني والاجتماعي والثقافي بين الزوجين، فلا يختر الزوج إلا من هي على «مقاسه»، ولا يختر ولي المرأة إلا من هو على «مقاسها» بعناية فائقة، دون تعجل؛ إذ إن هناك ضرورة لوجود الحد الأدنى من التكييف الاجتماعي، وتقارب الأفكار، والأنسب تقارب الأعمار، إلا في حالات استثنائية، والحب مهما بلغ قد لا يكون كافياً لتجاوز مسألة الفروق الاجتماعية والفكرية والثقافية بين الشريكين، ذلك أن الهوة الناشئة من التباعد الاجتماعي والثقافي والفكري والعلمي يصعب ردمها لا سيما مع طبيعة العصر الذي نعيش فيه، والمقاس المناسب للباس يضمن الالتصاق، مهما تباعدت المسافات.
وبخلاف ضرورة المقاس المناسب هناك التكييف؛ أي أنه من الوارد أن يتم التعديل على اللباس ليتناسب مع الشخص، وقد يتطلب التعديل الاستغناء عن بعض الزوائد، حتى لا يبدو اللباس بصورة مشوهة، وكذلك الحياة الزوجية، يأتي كل طرف بمواصفات وسمات متعددة، ولاستمرار الحياة الزوجية واستدامتها يجدر بكل طرف أن يتخلى عن بعض الصفات ويقدم بعض التنازلات لكيلا تتشوه حياتهما.
والملبس جالب للدفء وهو المعني بعملية التوازن والملاءمة للأجواء المحيطة بالشخص، والدفء الذي يجده الرجل مع زوجته لن يجده في غيرها، وكذلك الحال مع المرأة مع زوجها مهما بلغت عاطفة أهلها تجاهها.
ولا شك أن الآية الكريمة تحمل مضامين أخرى تبرز العلاقة الزوجية في أنقى صورة لا يعكر صفوها شيء، فحري بكل زوجين استشعار ما جاء فيها من معان راقية ليكون بمقدور كل طرف أن يوفر للطرف الآخر السكن والحماية والأمن والراحة النفسية بحسب ما يقتضيه دور كل منهما.