إن المشكلة لدى عدد كبير من المستشرقين وأتباع روايتهم المتأثرة بالتوراة فيما يتعلق بالمسجد الأقصى المبارك أنهم يعتبرون اليهودية والعبرية (المعروفة اليوم) الأصل في كل ما له علاقة بالقدس والمسجد الأقصى، وهذا الأمر مغلوط من ناحية اللغة واللسان، وحتى من ناحية التاريخ.
فليس من المنطق الادعاء أن المسجد الأقصى المبارك في الأصل هو المعبد (أو الهيكل كما يسميه البعض) المذكور في النصوص الدينية اليهودية، وذلك لأن مفهوم «المسجد الأقصى» أو «بيت المقدس» كما يقدمه النص والفهم الإسلامي أقدم وأعرق بكثير من مفهوم «المعبد» كما يقدمه النص والفهم اليهودي، حيث إن الفهم اليهودي يقوم على أساس ادعاء أن المفهوم نفسه مرتبط ببناء محدد له تاريخ تأسيسٍ وإنشاءٍ يرتبط بالملك سليمان ابن الملك داود –الذي لا يعترف اليهود بنبوتهما– ومن هناك تنطلق الرواية التي يروج لها ويتبناها أصحاب هذه المدرسة.
لكن هذا الفهم بحد ذاته مشكل ولا يقوم على أساس علمي، فإن استطعنا أن نثبت أن المسجد الأقصى (الذي هو حسب الفهم الإسلامي يعني المنطقة المحددة بالسور التاريخي شبه المستطيل) كان موجوداً قبل سليمان عليه الصلاة والسلام، فإن الرواية التي تنطلق منها تلك الرؤية تنهار عن بكرة أبيها، وهو ما يتجنبه أتباع هذه المدرسة تماماً، ولذلك تجدهم يحاولون التغافل عن الدراسات التي قد تخالف منهجهم وتبين خطأه وعواره ولا يتناولونها حتى بالنقد أو التحليل أو الرد.
ومن أهم الأمثلة على ذلك ما نشره الأكاديمي هيثم الرطروط عام 2005 ثم عام 2008م من دراسةٍ معمقةٍ حول العلاقة بين التخطيط الهندسي للكعبة بشكلها الأصلي وللمسجد الأقصى بشكله الذي لم يتغير على مر التاريخ بحسب الأسوار التاريخية القديمة له والشاهدة على ذلك.
فعندما أعاد عبدالله بن الزبير بناء الكعبة عام 63 هـ على أساساتها الأصلية العتيقة التي تعود على الأقل إلى عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، تم تسجيل أطوال وأبعاد الكعبة، ونقلها الأزرقي المتوفى عام 222هـ في كتابه «أخبار مكة»، ليقوم الرطروط بدراسة التخطيط الهندسي الأصلي للكعبة اعتماداً على هذا المصدر القديم، ويكتشف أن الشكل الرباعي الغريب والفريد من نوعه للكعبة يشابه تماماً التخطيط الهندسي للمسجد الأقصى بشكله الرباعي الغريب والفريد من نوعه كذلك مع الفارق الهائل في الأبعاد بين الكعبة التي لا يزيد أطول أضلاعها الأصلية على 26 متراً والمسجد الأقصى الذي يصل أطول أضلاعه إلى 492 متراً! ليتبين بذلك أن التخطيط الهندسي للمسجدين لا بد أن يصدر عن مصدر واحد، مما يؤكد أن الكعبة –التي تتفق الروايات الإسلامية واليهودية على نسبتها لإبراهيم على الأقل إن لم يكن آدم عليهما الصلاة والسلام– كانت الأصل الذي بني المسجد الأقصى على شكله، ومن الثابت لدى الروايات التوراتية أن الملك سليمان لم يصل إلى شبه الجزيرة العربية ولم ير الكعبة في حياته، فضلاً عن أن يتخذها مرجعاً هندسياً لبناء حدود المسجد الأقصى.
إضافةً إلى ذلك، فأصحاب الرواية الدينية التوراتية لا يمكن أن يعتبروا أن مكة أو الكعبة كانت مرجعاً لسليمان لأن التوراة تعتبر أن المرجعية الدينية والعرقية الأساسية الأولى هي لإسحق وأبنائه لا لإسماعيل وأبنائه، خاصةً أن الرؤية اليهودية للهيكل تعتمد على أن المعبد الأول لم يكن أكثر من مبنى صغير فوق هضبة موريا، ولم يكن هناك أسوار ولا تحديدٌ لبقعةٍ مقدسة لأنها أصلاً –حسب هذا الفهم– لم تكن مقدسةً قبل عهد داود، وسليمان.
وهذا الأمر يعني شيئاً واحداً، إما أن المسجد الأقصى هو الأصل؛ وبالتالي ففكرة المعبد طارئة على المكان وليس العكس كما يدعي أتباع الرواية التوراتية، أو أن المعبد هو الأصل لكن مرجعيته هي الكعبة، وهذا الادعاء الأخير يصادم كل المعتقدات التي يحاول أتباع تلك المدرسة بثها وتأكيدها، باعتبار أن الإسلام أخذ عن اليهودية لا العكس!
إن المشكلة في الحقيقة هي في النص الديني التوراتي واعتبار أن المعبد هو الأصل في هذه المنطقة، وأنه أول ما بني هناك، وبالتالي محاولة جعل المسجد الأقصى المبارك تابعاً للرؤية اليهودية وناتجاً عنها، والحقيقة أن هذا المنهج ليس فيه شيء من المنطق أو العلمية، وإنما يعتمد دائماً على الانتقائية كما أسلفنا وأوضحنا سابقاً، وهذه الانتقائية هي التي تجعل هذا المنهج متهافتاً لا يقوم على أساس علمي يمكن احترامه أو الأخذ به.