لا يستطيع الأسوياء أن يعيشوا بمعزل عن الآخرين، لأن الإنسان اجتماعي بفطرته، يأنس بمن حوله، ويسعد بالتواصل معهم، فيتبادلون قضاء الحوائج، وتيسير الأمور، ولنجاح هذا التواصل واستمراره يحتاج أطرافه أن ينضبطوا ببعض القوانين التي تنظم التواصل وتحميه من الانحراف المفضي إلى النزاع والصراع، ومن هذه القوانين: الاحترام المتبادل، والتوازن بين الالتزام بالثوابت الدينية والإفادة من الحضارات الإنسانية، وترسيخ الحقوق الإنسانية العامة المشتركة، ويتبين ذلك فيما يأتي(1):
1- الاحترام المتبادل:
يحتاج التواصل بين الحضارات إلى إقناع كل الأطراف بضرورة الاحترام المتبادل بينهم، وإزالة مشاعر الكراهية وعوامل الصراع بين الناس؛ لأن التواصل الحضاري لن يكون ذا مردودية تنفع الجميع ما لم يقم على أساس الاحترام المتبادل(2)؛ ولهذا دعت مبادئ الإسلام إلى احترام حقوق الشعوب، والكف عن ممارسة الأساليب العدائية ضد المخالفين، وتجريم إكراه الناس على دين بعينه أو ثقافة محددة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر، لأن كل حضارة تتميز بمقومات وخصوصيات تتناسب مع أبنائها، وتمدهم بالقوة الفاعلة في جوانب الحياة المختلفة، وليس من السهل مهاجمة هذا الرصيد الحضاري أو التهوين من شأنه في نفوس معتنقيه، أو دعوة أفراده إلى التخلي عنه والتماهي مع الآخرين، بل الأولى أن يسود الاحترام والتقدير الذي يفتح أبواب التواصل بين الحضارات، وييسر سبل التلاقي بينها.
ثانياً: التوازن بين الالتزام بالثوابت الدينية والإفادة من الحضارات الإنسانية:
أكدت المبادئ الإسلامية أن التواصل بين الحضارات لا يعني أن تتخلى الأمم عن ثوابتها الدينية والثقافية والحضارية، وإنما يعني الحفاظ على الخصوصية والاعتزاز بالهوية، مع الاقتباس من منافع الآخرين الحضارية، لكن يجب أن نفرق بين التواصل الثقافي والتبادل المعرفي والتبعية الثقافية والفكرية، واللهث وراء كل غث وساقط من الفكر بدعوى مواكبة العصر وملاحقة التطور الذي يشهده العالم المعاصر، إذ الأول أمر محمود، وأما الثاني فهو أمر مذموم، ونهانا الإسلام عنه، فالأمة الإسلامية منهية عن التبعية المضللة، لأن لها ذاتيتها وخصوصيتها(3).
وقد دعا المنهج الإسلامي إلى إقامة العلاقة بين الشرق والغرب وتبادل المنافع بينهما مع التأكيد على ضرورة الانتباه للفوارقِ الدينيةِ والثقافيةِ والتاريخيةِ التي تدخل عنصراً أساسياً في تكوين شخصيةِ الإنسانِ الشرقي وثقافته وحضارته.
فالمنهج الإسلامي لا يرفض التواصل بين الحضارات، لكنه يرفض التبعية العمياء التي لا تفرق بين الثوابت الدينية والثقافية والتاريخية وبين الإفادة من المنجزات الحضارية.
ولهذا أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مبعوث لإتمام مكارم الأخلاق، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ»، وفي رواية قال: «إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»(4).
ثالثاً: ترسيخ الحقوق الإنسانية العامة المشتركة:
يرتبط النجاح في عملية التواصل بين الحضارات بترسيخ الحقوق الإنسانية العامة التي تحفظ كيان الإنسان وتحميه من المشكلات والأخطار، ومن هذه الحقوق:
1- حق العدالة؛ فقد رسم المنهج الإسلامي سبيل الوصول إلى الحياة الكريمة من خلال تقرير حق العدالة، حيث أكد أن العدل القائم على الرحمة هو السبيل الواجب اتباعه للوصول إلى حياةٍ كريمة، يحقُّ لكلِّ إنسانٍ أن يحيا في كنفه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).
2- حق المساواة؛ فقد خلق الله البشر جميعًا متساوين في الحقوقِ والواجباتِ والكرامةِ، والناظر إلى المنهج الإسلامي يجد أن الإسلام قد اعتبر المواطنين جميعاً متساوين في ممارسة حقوقهم وحرياتهم وأمام التكاليف والأعباء العامة بلا تفرقة بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو اللغة أو اللون(5).
فإذا كان الإسلام قد ساوى بين البشر في الحقوق والواجبات والكرامة؛ فإن الواجب عليهم أن يطبقوا هذا المفهوم في الواقع العملي؛ لذا يجب العمل على ترسيخ مفهوم المواطنةِ الكاملةِ في مجتمعاتنا، والتخلي عن استخدام مصطلح «الأقليات» الذي يحمل في طيَّاته الإحساس بالعزلةِ والدونيَّة، ويمهّد لبذورِ الفتن والشقاقِ، ويصادرُ على استحقاقات وحقوقِ بعض المواطنين، ويؤدي إلى ممارسة التمييز ضدَّهم.
3- حق الحرية؛ فالحرية حقٌّ لكلِّ إنسان، وفي هذا تأكيد على أن التواصل بين الحضارات لا يعني فرض حضارة على أخرى، والناظر في المنهج الإسلامي يجد أنه يقرر أن أهل كل حضارة يعتنقون من العقائد ما شاؤوا من غير حرج، ولا إرهاق نفسي، بل إن الإسلام قد ذهب به احترامه للحرية إلى حماية العقيدة الدينية لمخالفيه من أن يعتدى عليها(6).
4- حق الحماية؛ وقد تعددت مظاهر حق الحماية في الإسلام مما يدل على أهميته في عملية التواصل بين الحضارات، ومن هذه المظاهر: حماية النفس الإنسانية من القتل والفقر والظلم والاضطهاد، وكذلك حماية دور العبادة من الاعتداء، والأوطان من الإرهاب، وفي هذا تأكيد على وجوب مواجهة كل ما من شأنه أن يهدد أمن الإنسان والأوطان، وذلك من خلال المواجهة الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، من أجل تهيئة المناخ الصالح لتحقيق التواصل بين الحضارات.
_____________________
(1) منهج الدعوة الإسلامية في التواصل بين الحضارات: د. رمضان حميدة محمد، ص 9.
(2) التواصل الحضاري: د. عبدالعزيز التويجري، ص 12.
(3) التواصل مع الآخر: سيد عبدالحليم الشوربجي، ص 32.
(4) صحيح الجامع (2833).
(5) العلاقة بين الأديان يجب أن تكون حواراً لا مواجهة: الشيخ محمود عبدالغني عاشور، ص 16.
(6) المجتمع الإنساني في ظل الإسلام: الإمام محمد أبو زهرة، ص 52.