تغلل شعار «حــلال» (Halal) في أسواق الطعام العالمية، فمن النادر أن تجد سوقاً كبرى للطعام في أي بقعة العالم، ولا تجد كلمة «حــلال» (Halal) موجودة على لافتة لمحل أو مطعم أو مختومة به سلعة، فالشعار يختزن معاني وأشياء كثيرة، أهمها الرؤية الدينية للطعام، والحكم التشريعي والفقهي تجاه أطعمة معينة، كما أنه يفتح أذهان كثير من غير المسلمين على الإسلام، ويوجد مساحات مشتركة للتواصل بين المسلمين وغيرهم، خاصة أن أطعمة «حــلال» باتت تفضيلاً صحياً وأخلاقياً لنسبة معتبرة من سكان العالم، بعدما بات رمزاً للاستهلاك الأخلاقي والصحي للطعام.
وقد أكدت الكاتبة الصهيونية ميلاني فيليبس في كتابها «لندنستان» (Londonistan) الصادر قبل 18 عاماً، التفاعل الإيجابي الذي يوجده الطعام الحلال بين المسلمين وغيرهم، وحذرت من أن الطعام الحلال ما هو إلا بداية لفرض الهوية الإسلامية المنفصلة، ثم فرض قانون إسلامي لا يعترف بالدولة، وبذلك تفرض الأقلية المسلمة قيمها على المجتمع البريطاني، ولعل كلام فيليبس لتدعيم حملة التخويف من الإسلام.
سوق عالمية واعدة
تكاد حركة الإنسان اليومية ترتبط بالبحث عن الطعام، إذ يشغل حيزاً كبيراً من جهده ونفقاته وصحته، ومن ثم كان لا بد للدين من تنظيم هذه العلاقة، وطرح الإسلام مفهوم الطيبات؛ إذ لا بد أن يكون الطعام من مصادر مشروعة، وأن يكون في ذاته طيباً نافعاً؛ لذا استحوذت التشريعات المرتبطة بالطعام على حيز معتبر من الأحكام الفقهية.
وفي عصر العولمة، تشير الإحصاءات إلى أن متوسط الإنفاق على الطعام في الاقتصاديات المنخفضة يبلغ 40% من الدخل، أما في الاقتصاديات المتوسطة فيبلغ 22% من الدخل، في حين يبلغ 10% من الدخل في الاقتصاديات المرتفعة، وهذا ما يجعل أطباق الطعام مساحات للتفاعل الثقافي والحضاري والديني.
وقد بلغت سوق الأغذية الحلال عام 2023م حوالي 2.3 تريليون دولار، وتحديداً 2339.1 مليار دولار، وهو سوق واعدة تنمو بنسبة 10% تقريباً، ومن المتوقع أن تصل عام 2030م إلى 5.2 تريليونات دولار.
ويعد مستهلكو الحلال أكثر ولاء للعلامة التجارية الحاصلة على شهادة «حلال»، مقارنة بالمستهلك العادي، وهؤلاء على استعداد لدفع مبالغ إضافية مقابل الالتزام بالجودة ومعايير الحلال؛ وهو ما يعني أن مشروعات الحلال من أكثر المشروعات ربحية عالمياً، وتشير التقديرات إلى أن مستهلكي الطعام الحلال في العالم قد يزيد على ملياري إنسان.
لكن الغريب أن المولات التي تعد من قلاع العولمة الكبرى في العالم، تحولت إلى أمكان لتسويق الطعام الحلال للذين يبحثون عن التسوق الآمن، ووفقاً للأمم المتحدة، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يعيشون في المدن في العالم إلى 56.9% عام 2022م، لكن هذه النسبة تزيد في الدول المتقدمة إلى 79.9% مقارنة بـ52.3% في الدول النامية، وهذا ما يجعل التسوق في المولات هو الأساس، وبالتالي تتحول المولات لعرض المنتجات الحلال.
فمنذ أكثر من 4 عقود، بات شعار «حــلال» يطرح نفسه بقوة على موائد الطعام في العالم، حتى أخذ يحتل نصيباً كبيراً من تلك الموائد، وبات أكبر مقدمي الطعام الحلال في العالم من دول غير مسلمة، فتبلغ حصة الدول غير المسلمة من إجمالي سوق المنتجات الحلال حول العالم حوالي 85%، فيما تبلغ حصة الدول المسلمة 15% فقط.
ونظراً لزيادة الإقبال على الطعام الحلال عالمياً، زاد عدد الهيئات المانحة لشهادات الحلال عن 36 وكالة، في أكثر 18 دولة، بل إن الطعام الحلال قد يكون في حال عدم توفره في بلد معين من معيقات السياحة، فيشير موقع اليابان بالعربي-مثلاً- إلى أن أحد الاستبيانات عام 2023م أن 86% ممن تم استطلاع آرائهم أبدوا قلقهم من عدم العثور على مطاعم ومتاجر تقدم الطعام الحلال.
الطعام والصحة
تشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أن الغذاء غير الآمن يتسبب في أكثر من 600 مليون إصابة بأمراض، وتؤدي الإصابات إلى وفاة أكثر من 420 ألف شخص سنوياً، وقدرت المنظمة أن الغذاء غير الآمن يهدر أكثر 33 مليون سنة من الحياة الصحية كل عام، ولعل انتشار الثقافة في العلاقة الوثيقة بين الطعام والصحة العامة والعافية والنضارة، دفع الملايين للبحث عن الطعام الذي يضع اشتراطات صحية وأخلاقية، ولعل هذا ما جعل الطعام الحلال مفضلاً وضرورياً لغير المسلمين.
في أكتوبر 2022م، نشرت مجلة «Food Bioscience» دراسة ميدانية أجراها عدد من العلماء في جامعة إكستريمادور الإسبانية، وقارنت بين الخصائص الفيزيائية والكيميائية والتغذوية بين اللحوم الحلال وغير الحلال، خاصة لحم البقر والضأن، لتحليل تأثير استهلاكها على تكوين الجسم، وميكروبات الأمعاء، ومضادات الأكسدة، وأفادت بأن اللحوم الحلال لها تأثير إيجابي على وزن المشاركين وكتلة العضلات ودهون الجسم وحالة مضادات الأكسدة، دون تغيير ميكروبات الأمعاء ومستويات العلامات الحيوية مثل الجلوكوز أو الأنسولين أو الحديد، ولعل هذا ما جعل اللحوم الحلال متوفرة حتى في المولات الكبرى التي تعد من معاقل العولمة، وباتت أركان اللحوم الحلال تستهوي المسلمين وغير المسلمين، ففي بريطانيا -مثلاً- يفضل 70% من المستهلكين اللحوم الحلال على اللحوم التقليدية.
وما يجعل سوق اللحوم الحلال رائجة، أن الاشتراطات الدينية في اللحم الحلال لا تبدأ وتتوقف عند طريقة الذبح، ولكنها تمتد إلى مرحلة تربية الحيوان، وضرورة أن يتغذى على الأعشاب والطعام النافع غير الضار، لأن اللحم الذي ينبت من مصادر ملوثة وضارة ونجسة يكون ضاراً؛ لذا كان الفقه الإسلامي، خاصة المذهب الحنبلي، يحرم أكل لحم «الجلالة» (مصطلح فقهي يشير إلى الحيوانات التي يكون أغلب أكلها من النجاسة، وقيل: التي يظهر في لحمها ولبنها أثر النجاسة) أو شرب لبنها، وهذا ما يجعل شعار «حلال» في اللحوم يقترن في أذهان الغالبية من غير المسلمين بمفهوم اللحوم العضوية، وهي لحوم ذات مواصفات صارمة في الجودة والنظافة تبدأ من تربية الحيوان حتى وصوله إلى مائدة المستهلك، وهي ذات أثمان باهظة، وقد لا تختلف مواصفاتها عن اللحم الحلال، ولعل هذا ما جعل الإقبال كبيراً من غير المسلمين على هذا اللحم الحلال.
ومن ميزات العولمة إنشاء هيئات كبرى لمنح شهادات الحلال، مثل المجلس العالمي للحلال (WHC)، الذي تأسس عام 1999م، بهدف توحيد عملية إصدار شهادات الحلال، وهو هيئة عالمية تمثل اتحادًا لهيئات إصدار شهادات الحلال في جميع أنحاء العالم، وقد تبنى المجلس مبادرة لتخصيص يوم 17 رمضان من كل عام كـ«يوم عالمي للحلال»، ويتوافق هذا اليوم مع نزول الآية الكريمة: (فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً) (الأنفال: 69).
_________________________
1- بدأت شهادة الحلال في الغرب في منتصف الستينيات في الولايات المتحدة من قبل خبراء الأغذية المسلمين، كضرورة للمسلمين الذين يعيشون في مجتمع غير مسلم.
2- يعرض المول في المتوسط أكثر من 40 ألف سلعة.
3- الدول العشر الأكثر تصديراً للمنتجات الحلال: الهند والبرازيل والنمسا والولايات المتحدة والأرجنتين ونيوزيلندا وفرنسا وتايلاند والفلبين وسنغافورة.
4- تأتي ماليزيا وإندونيسيا وتركيا في مقدمة الدول المسلمة المساهمة في الاقتصاد الحلال، ويبلغ حجم صادرات تركيا أكثر من 20 مليار دولار سنوياً.
5- تنص قوانين أوروبية على ضرورة تخدير الحيوان قبل ذبحه، فقد أقر الاتحاد الأوروبي قانوناً عام 2012م يجبر الدول على مضاعفة مستوى تخدير الدواجن قبل ذبحها، وهو ما يعني موت الحيوان قبل ذبحه، وغالباً ما يتم التخدير بغاز ثاني أكسيد الكربون.