ينبغي أن تدرك الأمة الإسلامية عامة والحركة الإسلامية بتياراتها المختلفة خاصة طبيعة المعركة القائمة، وأن تتصور موقعها فيها على الوجه الصحيح، وأن تجعل من «طوفان الأقصى» مرجعية للمدارسة، وقدوة في الممارسة، ومنهجية في المقاومة، وهذه دروس عشرة ينبغي للحركة الإسلامية خاصة، والعاملين لرفع راية الإسلام عامة، أن يستخلصوها من المعركة الجارية في غزة، وأن يجعلوها منهجية انطلاق وبناء، وهي كما يلي:
1- إدراك طبيعة المعركة:
لقد أثبتت «طوفان الأقصى» أن المعركة ليست على الأراضي والثروات والمقدسات فحسب، وإنما أصل المعركة بين الإسلام وخصومه، وليس هذا بجديد علينا، فقد نص عليه القرآن، ولكن للأسف لم نتحقق بالآيات، قال الله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة: 217).
فقد دارت رحى المعركة على المساجد بغية محوها، وعلى العلماء بغية الخلاص منهم، وعلى أهل القرآن خوفاً مما في صدورهم، وعلى الأطفال والأجيال خشية انتفاضتهم، وعلى كل ما هو دين وشرع وراية، فعلى العاملين للإسلام أن يحذروا من الاستنزاف في معارك جانبية، أو خلافات سياسية، أو توجهات أيديولوجية.
2- أن تعد من أدواتها ما يتناسب وطبيعة المعركة وشدة تداعياتها:
على الحركة الإسلامية بتيارها العريض في الأمة أن تتأهب للمعركة بحفر أنفاق المسارات الجديدة بعد تجربتها الطويلة، وأن تدرك أن معارك الأمس لا تدار بأدوات اليوم، ومعارك الغد لا تدار بأدوات الأمس، فلكل ميدان حسامه، ولكل يوم رجاله، ولكل حرب مفرداتها وأسلحتها، وأن تدرك أن العدو لا يقبل فكرة التعايش، لأنه يسعى دائماً للاستئصال: قال تعالى: (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة: 10)، وقال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: 120).
3- أن تتخلص من منهجية التماهي مع الاستبداد وتشريع وجوده:
على الحركة الإسلامية أن تدرك أن عدوها الأول يكمن في الاستبداد الذي يتحكم في مصير الأمة، ويطوع إمكاناته لخدمة المحتل المعتدي، ويسعى جاهداً لتجفيف منابع الدين، بتغيير المناهج، وتكميم الأفواه، وتغييب الرواد والعلماء قتلاً وسجناً وتضييقاً ومطاردةً، ولا يفرط في استغلال وتشجيع أي وسيلة تؤدي إلى سلخ الأمة عن هويتها!
فعليها أن تستثمر الوعي الجماهيري بهشاشة الأنظمة القائمة، وأنها من أكبر أسباب نكبة الأمة، وتخلفها الحضاري، لتتطهر من دنسها، وتتخلص من جورها.
لذا، ففكرة التماهي مع تلك الأنظمة، أو تبرير فسادها، أو تشريع جرائمها خيانة للأمة، وتفريط في حماية ثغورها، وإطالة لأمد الباطل، وإمداده بأسباب البقاء.
4- أن تؤهل قيادة جديدة تدرك متطلبات المستقبل، وتتأهب لامتلاكها، وتعيد تموضعها:
على الحركة الإسلامية أن تدرك جيداً أن من لا يتجدد يقيناً سيتبدد، ومن لا يتطور يقيناً سيتقهقر، لذا عليها أن تُعد قيادة راشدة من شباب الأمة الواعي، قيادة تمتلك ثورة الشباب، وخبرة الشيوخ، وناصية العلم، ومعالم الإدارة، وفنون المناورة، ومهارات الحوار، ووسائل التأثير.
قيادة تحترف البناء، وتحيط بأسرار واقعها، وتستشرف مستقبل أمتها، وتصنع الفرص، وتستثمر الثغرات، وتكتشف الإمكانات، وتفعل الطاقات.
قيادة ترى موقعها الفاعل في المستقبل رؤيا العين، ولا تعيش في دروب الماضي تتسكع في زوايا أزقته القديم!
5- أن تحشد أتباعها في خندق الثوابت وحراسة القيم وحماية الأصول:
لا شك أن المعركة القائمة أوجبت على العلماء والدعاة والفاعلين في الحركة الإسلامية أن يتترسوا بالثوابت العقدية، وأن يحشدوا أتباعهم في خندق التحقق بها والذود عنها، وأن يحفروا ليل نهار أنفاقاً يُعدون فيها رجال العقيدة، الذين يحملون الراية دون تردد، وينطلقون بها دون خوف، ويزحفون بها دون فرار، وأن تسعى بكل طاقة لديها لغرس اليقين في قلوب الناس، وتأهيلهم لمعركة فاصلة ينجلي غبارها عن فسطاطين متباينين؛ فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه.
6- أن تتخلص من الانزواء داخل أقاليمها، والتشاغل بقضاياها المحلية:
لقد أثبتت «طوفان الأقصى» أن معركة الإسلام ليست حبيسة جدران الحدود المصنوعة والأعلام المزركشة، والمسميات المفبركة، فمعركتها معركة أمة تباعدت أطرافها، واتسعت حدودها، وتوثقت رابطتها، وتوحدت رايتها، فمعركة «طوفان الأقصى» تداعت لها الأمم الباغية الغالبة، وقادتها الدول الكبرى المتحالفة، وكشف الجميع عن وجهه القبيح، وصارت حرب عقيدة ودين، وليست حرب ثروات وطين، وأبرزت لنا مفهوماً غاية في الوضوح، وهو أن عدم الانحياز هو عين الانحياز، وأن السكن في المناطق الرمادية هو عين الاصطفاف مع الباطل.
7- أن تستثمر فرصة إعادة المصطلحات الإسلامية وطرحها بكل قوة وإدراك:
لقد أعادت «طوفان الأقصى» لنا مفاهيم ظننا اندثارها، ومصطلحات تمت سرقتها وتشويهها، فقد أضحى مصطلح الجهاد والاستشهاد والإعداد والأمة والتحرير وغيرها مصطلحات حاضرة، عادت إلينا بعد طول غياب، فقد كان الحديث عنها درباً من المجازفة خشية الاتهام بالانتساب لفئة مصنوعة من الغلاة، أو الاتهام بالتطرف والإرهاب، ولكن «طوفان الأقصى» أعادتها حية فاعلة، فلنستثمر الفرصة ولنُعد طرحها وغرسها مرة أخرى في بيئتنا وأجيالنا، ونمسح ما أصابها من تحريف أو تجريف، لتظل مفهوماً إسلامياً إيمانياً راسخاً، يتشكل منه وعي الأمة.
8- أن تستثمر الفراغ الناتج عن سقوط المنظمات الدولية وتراجع صراع الأيديولوجيا الداخلية:
لا شك أن «طوفان الأقصى» كشفت جميع الوجوه القبيحة، وأسقطت الدعايات المزيفة، وعرت عورات الأنظمة الدولية فظهرت سوءتها، ورأى العالم كله قبيح طويتها، فكفرت الشعوب بفلسفاتها، وأعرضت عن منهجياتها ومظاهرها، ففُتحت الأبواب أمام حملة رسالة الإسلام، ليعيدوا طرح منهجيات دينهم، وعدالة قضيتهم، ورقي إنسانيتهم، وعراقة أخلاقهم، وإن التأخر عن ملء تلك الفراغات يسمح مرة أخرى لرايات الباطل بالارتفاع، ومنهجياته بالانتشار، ودعاياته بالتأثير، حتى تصل إلى بيوتنا وأجيالنا فتفسدها.
كما ينبغي أن تستثمر الحركة الإسلامية خفوت صراع الأيديولوجيات داخل الأمة، وتراجع حدته، وتقارب الصفوف لمواجهة الاستبداد، وتحرير البلاد، وحماية المقدسات، فتزكي فيه الأخوة، وتغلق أبواب التنازع، وتعيد ترتيب الأولويات، وتجيد التفريق بين الثوابت والمتغيرات.
9- أن تترس بجمهور الأمة لتنهض معه، ولا تتمايز داخل مؤسساتها فيسهل احتواؤها والانقضاض عليها:
لقد علمتنا «طوفان الأقصى» أن الحرب شاملة، ولا يمكن الثبات في الحروب الشاملة إلا باستثمار كل الطاقات، وحشد كل الإمكانات، وعلى رأسها الحاضنة المجتمعية، فصراعنا مع الباطل ليس صراع جيوش فحسب، بل صراع مفاهيم وقيم ومعتقدات؛ لذا يجب على العاملين لنهضة أمتهم أن يستنهضوها للقيام بواجباتها، ولا ينوبوا عنها في القيام بها بمعزل عن دعمها وتأييدها وتضحياتها وثباتها، حتى لا تتصور أننا أوصياء عليها، فتركن للدعة، أو تتأثر بالدعايات الكاذبة، فتتحول إلى خنجر في ظهر العاملين بدلاً من أن تكون سهماً في كنانتهم!
10- أن تعيد استثمار الطاقات وتفعيل الإمكانات، بصرف النظر عن المسميات والرايات:
لقد تعلم الجميع أن العدو لما دخل إلى غزة في معركة «الطوفان» لم يفرق بين فصيل وفصيل، ولا بين منهجية وأخرى، ولا بين حزب وآخر، بل سعى لإبادة غزة بمن فيها، ورأينا على الجانب الآخر تحالف المجاهدين، وتعاون المقاومين، والتنسيق الكامل بين الفصائل، وكيف ساهم ذلك الانصهار في قوة الصف المجاهد، ومناعة الحصون، وقوة البأس، وعظيم الثبات.
لذا، على الحركة الإسلامية العامة أن تتعالى على أي خلافات مذهبية، أو تحزبات سياسية، أو توجهات أيديولوجية، لتنصهر كل طاقتها في بوتقة الإسلام العظيم، وحصنه المنيع، وأن تُسخر كل طاقاتها لرفع الراية، وحماية بيضة الإسلام، وأن تقدم روح الأخوة الفاعلة، والمصير المشترك، على كثير من الأسماء والرايات والمسميات.