انطلقت العملية التعليمية في مختلف أنحاء العالم، وفتحت المدارس والجامعات والمعاهد أبوابها، وتوجه إليها أبناؤنا وبناتنا، ثروة الأمة ورواد مستقبلها، حاملين الآمال لتحقيق العلم النافع، والخلق القويم، والمهارات الفاعلة.
ولعمري، ما أجمل العلم! وما أعظم مكانته في الإسلام! يكفي أن أول ما نزل من الوحي كان (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1)، لتكون القراءة بابًا إلى مقام الخشية؛ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر: 28)، وقد كانت الأمة، حينما نزلت هذه الآيات، في أدنى دركات الجاهلية بكل معانيها، ولكنها، بنور القرآن ومنهجية الإسلام، قفزت قفزة هائلة في عالم التغيير، فانتقلت في سنوات معدودات من رعاية الأغنام إلى ريادة الأمم، ومن الجهل إلى الإبداع في كافة العلوم والمجالات.
لكن، نظرة سريعة على المنظومة التعليمية الحالية، سواء من حيث شكلها أو زمنها أو مناهجها أو القائمين عليها، تكشف لنا حجم الانحراف والانجراف الذي أصابها، اسمحوا لي أن أطرح بعض الأسئلة الكاشفة التي تحتاج إلى تأمل:
الأول: هل المنظومة التعليمية الحالية تربط بين العلم والإيمان؟ وهل بُنيت مناهجها على هذا الأساس؟ وهل نقرأ باسم الله كما أمرنا الله تعالى؟
الحقيقة المحزنة أن الإجابة القاطعة هي بالنفي، فالتعليم اليوم مُنفصَم عن الإيمان، والمناهج الدراسية تُصمم وفق معايير غربية لا علاقة لها بمنظومة القيم الإسلامية، فالمناهج الدراسية مصنوعة بعناية فائقة تحت إشراف النظام الأمريكي والأوروبي، وتتحكم فيها المنظومة الدولية بصورة لا تخطر لأحد على بال، فالمناهج مبنية على معايير غربية، حتى مواد الهوية مثل اللغة العربية والدراسات الإسلامية والاجتماعية، كلها مصممة وفق معايير دولية حسب منهجيات وقيم وأفكار المجتمع الغربي.
وأذكر هنا أنني كنت أشرف منذ سنوات قليلة على صناعة مناهج الهوية لإحدى الدول العربية والإسلامية، وكان معي عدد من الخبراء التربويين في العالم، فكنت أُرسل للوزارة الوحدة الدراسية، أو حتى أحيانًا الدرس الواحد من مواد الهوية للاعتماد من الوزارة المختصة، وإبداء الملاحظات، فتكون المفاجأة أن تأتيني تقارير عدة، ليست من وزارة التعليم بذلك البلد فحسب، بل تأتي تقارير من معهد «راند» الأمريكي وبعض المراكز البحثية التي تسير على منهجه، وكانت الوزارة تتعامل مع هذه التقارير كأنها كتب منزلة من السماء، لا ينبغي مخالفتها مهما كان فيها من توجهات تخالف الإسلام وقيمه!
ولعلنا ندرك بذلك أن المناهج التي بين أيدي أبنائنا ليست من صناعتنا، وليست منطلقة من كتاب ربنا، ولا تصنع جيلاً يحمل كلمة الإسلام ويتحقق بها، بل إن بعضها يعادي الإسلام ويخالف شريعته جملةً وتفصيلاً.
الثاني: هل الزمن التعليمي الممتد يناسب احتياجات أبنائنا؟
يُؤخذ الطفل من حضن أمه بعد الفطام ليلتحق بالحضانة، ثم المدرسة بمراحلها، ثم المعاهد والجامعات لمدة لا تقل عن 20 عامًا، لكن هل ما يعود به أبناؤنا بعد كل هذه السنوات يستحق هذا الزمن وهذه التضحيات؟!
والسؤال الأهم: من الذي فرض هذا التقسيم؟ وكيف نُسلِّم أبناءنا لمدة 20 سنة إلى تلك المنظومة بهذه السهولة، بل وبهذا الإصرار؟! وهل ما يعود به أبناؤنا بعد تلك المدة الزمنية الطويلة يستحق كل هذا الجهد، وكل هذه الأموال، وكل تلك السنوات التي تُعتبر أجمل مراحل حياتهم التي لا يمكن تعويضها؟!
أعتقد أن ما يتم تحصيله من علوم ومعارف خلال تلك المدة الطويلة، التي تعتبر الأغلى والأغنى والأجمل في حياة الإنسان، لا يستحق كل هذا العناء ولا كل هذا الجهد ولا كل تلك الأموال، فيمكن تحصيله بأقل من ذلك بكثير، خاصةً وإن أدركنا أن الكثير مما يُدرس لهم ليس له مستهدفات حقيقية لبناء الشخصية السوية، أو اكتشاف الطاقات واستثمار الإمكانات، بل على العكس من ذلك تمامًا!
بل الأدهى من كل ذلك أن أكثر الشهادات التي يعودون بها إلينا لا علاقة لها بالأعمال التي يُستغلون بها، بل ربما تخرج بعضهم ومعه متطلبات السوق لكنه في الوقت نفسه فارغ من متطلبات رب الكون!
الثالث: ماذا تُنتج لنا المنظومة التعليمية الحالية؟
الناظر إلى مخرجات المؤسسات التعليمية يدرك أن القيم الأخلاقية تضيع، وأن الاختلاط في المدارس يؤدي إلى فساد أخلاقي متزايد، فحفلات التخرج في المدارس والجامعات أصبحت تعبيرًا عن اختفاء القيم، فالرقص والعري والاختلاط قاسم مشترك في هذه المناسبات.
بل إن بعضهم يعود مشوهاً نفسياً وفكرياً واجتماعياً من جراء الصراع على الدرجات التي يسعى مع أسرته للحصول عليها، بل إن أغلب الأسر لا يشغلها إلا تلك الأرقام والعلامات التي يحصل عليها التلاميذ، بصرف النظر عما صاحبها من انحراف فكري أو قيمي!
وقد علمتنا امرأة في الزمن القديم درساً بليغاً ينبغي أن يوقظ فينا الهمة ويصحح لنا المفاهيم، وهي أم سفيان الثوري، حينما قالت له وهو طفل: «يا بني، خذ هذه الدراهم العشر فتعلم بها عشرة أحاديث، فإن رأيت أنها تُغير في سلوكك، تعالَ أعطني غيرها وأعينك بهذا المغزل»، هذه الحكمة تعكس الفرق بين العلم الذي يُحدث تغييرًا حقيقيًا في الأخلاق والسلوك، والعلم الذي نحصله اليوم ولا نرى أثره.
فقد علَّمت البشرية أن العبرة ليست في أن يحفظ الأحاديث العشرة، إنما العبرة أن نرى أثر ذلك في سلوكه وفي أخلاقه، وهذا ما لا وجود له في تعليمنا، ولا حتى في أسرنا ومجتمعاتنا!
وإن الأسوأ من كل ذلك أن بعض الناس أو كثيراً من الناس يهرعون إلى تسليم أولادهم لمناهج أجنبية، ومدارس أجنبية، ويفتخرون بذلك، وينفقون أموالاً طائلة، يظنون بذلك أنهم أسدوا خدمة لأبنائهم، ونسوا أنهم سلموا عقول أبنائهم لمن لا يعرف الله، بل من يعادي كلمة الإسلام والمسلمين، والعجيب أن الناس ربما يعلمون أبناءهم مقاطعة بعض المأكولات والمشروبات التي تقدمها شركات الأعداء، في الوقت الذي يسلمون قلوب أبنائهم وعقولهم لهؤلاء، يفسدون فيها أيما فساد!
حجم الخلل
إن أزمة التعليم في العالم الإسلامي تتعدى مجرد ضعف النتائج الأكاديمية، فهي تهدد هويتنا وقيمنا وتضعف قدرتنا على المنافسة في العصر الحديث، فبدلاً من أن يكون التعليم وسيلة لبناء أجيال واعية وقادرة على الإبداع، أصبح أداة لتلقين المعلومات وتجهيز الأيدي العاملة، هذا الوضع يتطلب منا جميعًا؛ حكومات ومؤسسات مجتمع مدني وأفرادًا، أن نتكاتف للعمل على إصلاح هذا النظام التعليمي المتعثر، وأن نضع نصب أعيننا هدف بناء جيل واعٍ بدينه وقيمه، قادر على النهوض بأمته.
يضاف إلى كل ذلك أن المنظومة التعليمية أصبحت تُستخدم اليوم كأداة لتسويق أنظمة الاستبداد، وإهدار الأموال، وتدمير الطاقة البشرية، الأمة الإسلامية اليوم لا تمتلك منهجيات تعليمية حقيقية تغرس الإسلام في نفوس أبنائها.
والأمة الإسلامية تمتلك تراثاً تعليمياً وتربوياً ضخماً أخرج للبشرية أعظم النماذج، وأرفع المستويات، حيث حازت الأمة أعلى المراتب البحثية والمعرفية، ومع ذلك، لم يُؤثر عن المسلمين أنهم استخدموا تلك العلوم والمعارف في صناعة الأسلحة الفتاكة التي تبيد البشرية، أو احتكروا العلوم والمعارف فلم يبذلوها للبشرية، أو حولوا بها الناس إلى فئران تجارب، أو نشروا بها الإباحية، وشوهوا بها الفطرة الإنسانية، بل على العكس تمامًا، كانت علوم الأمة وحتى يومنا هذا مصدراً للنهضة العلمية، ومنطلقًا للثورة المعرفية.
الحل
– ينبغي أن نتنادى بثورة على تلك المنظومة القاتلة التي اغتالت شباب أمتنا، وأهدرت كثيرًا من جهودنا وأموالنا وأعمارنا.
– يجب أن نفكر في كيفية صناعة منهجية تعليمية مستقاة من مصادر ديننا وقيمه الراقية، مستقلة عن التحكم الخارجي بكل أبعاده.
– من الضروري أن نعود إلى المنظومة الإسلامية التي يتلقى فيها الطالب العلم بأريحية مُختلفة، وبمنهجية مُختلفة، تحافظ على حياته، وعلى إنتاجه، وتكتشف إمكاناته وتستثمر طاقاته.- يتوجب علينا إعادة صياغة التعليم، والعودة إلى منهج “اقرأ باسم ربك”، ليحدث التكريم الحقيقي للبشرية. ساعتها، سنخرج جيلاً قرآنيًا وإسلاميًا ينهض بالأمة من جديد. – ينبغي أن تعود الأسرة للقيام بواجبها التربوي والتوجيهي والقيمي، وألا تترك للمنظومة التعليمية المساحة فارغة تفعل فيها ما تريد.