كاتب المدونة: عمر عوض (*)
في شهر أغسطس من العام الجاري، كشفت تقارير صحافية عن وجود نقل منتظم ومكثف للبضائع إلى الكيان “الإسرائيلي”، انطلاقًا من خمسة موانئ مصرية، مما يشكل منافذ إمداد رئيسية لـ”إسرائيل” خلال حربها على غزة. وقبل ذلك، نشرت قناة عبرية تقريرًا عن الجسر التجاري البري الذي يمر بعدد من الدول العربية وصولًا إلى “إسرائيل”، وذلك في ظل فرض جماعة أنصار الله في اليمن حصارًا بحريًا على “إسرائيل” في البحر الأحمر.
عند متابعة مثل هذه الأخبار، قد يجد القارئ نفسه مندداً بالسلطة المصرية، معتقداً أنها تعقد تحالفات سياسية تتجاهل تمامًا البعد الأخلاقي في الحرب الدائرة. لكن في الواقع، لا ترى الدولة المصرية، وغيرها من الدول العربية المطبعة مع “إسرائيل”، هذه التحالفات على أنها عيب أخلاقي، بل تعتبرها شكلاً من أشكال الواقعية السياسية التي يفرضها واقع الأمور ويرسم لها مسار تحالفاتها وارتباطاتها الخارجية.
البراغماتية الغربية.. الافتراضات والأسس
إذا أردنا فهم كيفية تحرك الدول في العصر الحديث، يجب أولاً أن نفهم الافتراضات الفلسفية والأخلاقية التي أسست لمفهوم العقل البراغماتي والواقعية السياسية. بدايةً، افترض المفكرون الغربيون في وقت مبكر من “عصر التنوير” وفي الأعمال السياسية الأساسية مثل نظريات العقد الاجتماعي، والتي مهّدت لمعظم المفاهيم والتعريفات التي تحكمنا اليوم، أن طبيعة البشر لا يمكن أن تنتج سوى الصراع والنزاع.
اعتبر هؤلاء المفكرون أن الإنسان بطبيعته عدائي وعدواني، يسعى وراء السلطة والقوة، مستخدمًا مختلف الوسائل للحصول عليها والحفاظ عليها، ولا يمكن تصور طبيعة أخرى له. هكذا فسر مفكرو الغرب ضرورة تشكيل السلطة السياسية في المجتمع.
بالإضافة إلى كونه عدائيًا وشهوانيًا، افترض الغربيون أيضًا أن الإنسان كائن عاقل في الوقت ذاته. وباعتباره عاقلاً، يُفترض أن يختار التنازل عن جزء من حقوقه لصالح السلطة السياسية مقابل أن توفر له الأمن والاستقرار.
وبالتالي، يقوم كل إنسان عاقل بحسابات واقعية تدفعه إلى الإيمان بضرورة تشكُّل سلطة سياسية في المجتمع. أما من يعارض تشكُّل السلطة وممارساتها لاحقًا، فلا ضير من تعرُّضه لممارسات غير أخلاقية من قِبَل السلطة، وذلك لمنعه من نشر الفساد في المجتمع الذي تتألف أغلبيته من الأفراد المذعنين. وهكذا، تُسحق الأقلية المتمردة لصالح الأكثرية المطيعة.
أخلاقيات الغرب.. معيار النفعية المادية
من هنا يمكن فهم النظرية النفعية في الفلسفة الأخلاقية، التي تُختصر عادة بجملة: “إن الفعل الصحيح (أخلاقيًا) هو الذي يؤدي إلى تعظيم السعادة أو الرفاهية الشاملة لأكبر عدد من الناس.” هذا هو المعيار الأساسي لأخلاقيات الغرب: “الخير الأعظم لأكبر عدد.”
بمعنى آخر، تؤسس هذه الفلسفة الأخلاقية لنقطتين جوهريتين في صلب المفاهيم الغربية للنظرية السياسية:
أولاً، من الأخلاق الحميدة أن يختار الحاكم أو السلطة السياسية الأفعال التي تؤدي إلى نتائج أكثر إيجابية (مثل المتعة، السعادة، النهضة، التطور، إلخ) وتقلل من الآثار السلبية على الأغلبية من شعبه.
ثانيًا، الجدلية الأخلاقية في النقطة الأولى تفرض معيارًا فريدًا للحكم على أخلاقية العمل. لم يعد يُنظر إلى الوسائل المستعملة لتحقيق الأهداف من الناحية الأخلاقية، بل يُنظر حصريًا إلى النتائج المتحققة. بمعنى آخر، يُحكم على أخلاقية الفعل من خلال نتائجه، لا من خلال أساليبه.
تشكل هذه الافتراضات جزءًا كبيرًا من بنية النظريات السياسية المعاصرة، خاصة عند الحديث عن مفهوم “الواقعية السياسية” في العلاقات الدولية. في الواقع، لم تخلُ النظريات السياسية الغربية من هذه الواقعية منذ بدايات الأعمال التأسيسية في عصر التنوير. الجميع يعرف كيف سوَّغ مكيافيلي للأمير التنازل عن الفضائل والمثل الأخلاقية، واستخدام أساليب غير لائقة عندما تستدعي الضرورة ذلك من أجل الاكتساب أو الردع.
وقد بقيت هذه النظريات تحتل مساحة مهمة في الفكر السياسي الغربي حتى يومنا هذا، حيث نرى كيف يبرر الغرب مجازر “إسرائيل” في غزة، معتبرًا إياها ضرورية للحفاظ على رفاهية عدد كبير من الناس.
لذلك، من المهم أن نلاحظ أنه من الخطأ افتراض أن الغرب يفتقر إلى الأخلاق. بل إن الغرب يمتلك منظومته الأخلاقية الخاصة في إطار نظريته السياسية. فهو يرى أن قتل آلاف الفلسطينيين من أجل أن يعيش غيرهم في أمان واستقرار يُعد عملًا أخلاقيًا ضمن هذه الأطر.
الواقعية السياسية.. فهم دوافع الدول في العصر الحديث
أما الواقعية السياسية في العلاقات الدولية، فهي تفترض أن العالم عبارة عن بيئة تنافسية وفوضوية بطبيعتها، ولا يمكن تصوره بشكل مختلف، تمامًا كما لا يمكن تصور إنسان غير عدواني. لذلك، تسعى الدول بشتى الوسائل إلى ضمان بقائها وحماية مصالحها القومية من خلال القوة في المقام الأول، وهو الخيار العقلاني الذي يُفترض أن تتخذه أي دولة عاقلة.
نتيجة لذلك، تتسارع الدول في حلبة الصراع الدولي نحو التسلح وتعظيم قوتها الذاتية، إذ يُعتبر الصراع والمنافسة بين الدول أمرًا لا مفر منه. وبالإضافة إلى تعزيز القوة الذاتية، تلجأ الدول إلى تشكيل التحالفات مع الآخرين، عادةً لردع التهديدات المحتملة. وكل هذا يحدث بمنأى عن الاعتبارات الأخلاقية المباشرة (مثل مقتل المدنيين)، لأن الغاية الأخلاقية العظمى لأي رجل سلطة في النظام العالمي الحديث هي الحفاظ على الأمن الداخلي وتحقيق أكبر قدر من السعادة لشعبه.
إذن، الواقعية السياسية لا تعترف بأي دوافع عاطفية أو أخلاقية في اتخاذ القرارات. بل تتحرك وفق استراتيجية تهدف إلى زيادة قوة الدولة وسعادة شعبها وتقليل الأخطار المحدقة بها، مع أخذ ديناميكيات القوة في الواقع بعين الاعتبار. فالاعتراف بالعالم كما هو، دون محاولة تغييره، هو الخطوة الأولى للعقل الواقعي.
بمعنى آخر، العقل الواقعي لا يسعى إلى تغيير الواقع، بل يعمل وفقًا له، حيث تكون القوة والأمن والمصالح القومية هي المحرك الأساسي لسلوك الدول في نظام عالمي تنافسي بطبيعته. لذلك، لا ترى العقلية الواقعية مشكلة أخلاقية في استخدام القوة بأشكالها المتنوعة لحماية المصالح القومية، نظرًا لتوقعها أن الآخرين قد يشكلون تهديدًا في أي لحظة.
التطبيع العربي في أطر الواقعية السياسية
بالعودة إلى التقارير الصحفية وتقييم موقف الدول العربية المطبّعة من الناحية الأخلاقية، يمكن القول إن النقاش الحالي يجب أن يتمحور حول النظرية الأساسية للواقعية السياسية وليس حول نتائجها. بمعنى آخر، لا يبدو منطقيًا أو مجديًا مناقشة أخلاقية الأساليب لدى أصحاب الفكر الواقعي، لأنهم أساسًا يرون أن الأخلاق تُحكم بناءً على النتائج وليس على الوسائل المتبعة لتحقيقها. لذا، يجب أن يتركز النقاش على الافتراضات النظرية التي تؤسس لهذا الفكر، وليس على النتائج العملية التي تنتج عنه.
فالدول العربية المطبّعة قد شهدت بوضوح كيف انهارت عشرات المشاريع السياسية بسبب معارضتها للإرادة الأمريكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي. الواقعية السياسية تفرض على أي نظام سياسي يعيش في ظل الهيمنة الأمريكية أن يسير في ركب المشروع الأمريكي لضمان بقائه. ووفقًا للنظرية الواقعية، يتمتع هذا الخيار السياسي بحس أخلاقي مرتفع، لأنه ببساطة يوفر للدول والشعوب الأمن والاستقرار.
وكأن الأمريكي صمّم هذا العالم ليقول للجميع: إن استقرار سلطاتكم وأمن دولكم له طريق واحد، وهو الانضمام إلى جوقة السائرين نحو البيت الأبيض. ومن يتوقف عن السير أو يغيّر وجهته، فليكن على استعداد لتحمل العواقب: عقوبات اقتصادية قاسية، مؤامرات، تشويه إعلامي، ضغط نفسي، وربما غزو عسكري.
لذلك، فإن المؤمن بأخلاقية الواقعية السياسية لا يمكنه أن يتقبل فكرة مقاومة إسرائيل. فهو يرى أن نتائج أي مقاومة ضد احتلال يُفترض أن يكون متفوقًا ماديًا بشكل كبير، بحكم قدرته على احتلال أرض والصمود فيها، ستكون كارثية وتتعارض مع الفكرة القائلة بأن الخيار الأخلاقي والعقلاني لأي دولة هو السعي إلى الاستقرار والأمن.
وبالتالي، يبقى الخيار “الصحيح” لأي دولة تعيش في ظل النظام العالمي الذي صُمم وفق المصالح الأمريكية هو السير في الركب الأمريكي. إنه الخيار العقلاني والأخلاقي دائمًا في أدبيات الواقعية السياسية.
النظرة القيمية للأخلاق.. ما وراء الحسابات المادية
إذن تستند الواقعية السياسية في العلاقات الدولية إلى افتراض أن الدول تتصرف بناءً على مصالحها الوطنية في المقام الأول، وغالبًا ما تُعطى الأولوية للقوة والبقاء على حساب المبادئ الأخلاقية أو الأيديولوجيات. هذا المفهوم يفسر كيف تتخذ الدول قراراتها في العالم المعاصر، ويوضح الأسس التي تستمد منها شرعيتها وأخلاقياتها.
ومع ذلك، فإن هذا التفسير لا يعني بالضرورة تبرير هذه القرارات أو اعتبارها صحيحة من منظور أخلاقي مطلق. على سبيل المثال، يُفترض أحيانًا أن النموذج الأمريكي في السياسة والاقتصاد يمثل تفوقًا هائلًا من الناحيتين المادية والنظرية، لكنه لا يعني بالضرورة أنه النموذج الأفضل.
هنا يبرز السؤال: ما هو المعيار الذي يمكن استخدامه للحكم على أفضلية النماذج السياسية؟ إذا كانت النتائج هي المعيار، وفقًا للمذهب النفعي، فإن النموذج الأمريكي قد يُعتبر الأفضل نظرًا لتفوقه الاقتصادي والعسكري. ولكن، افتراض أن النتائج المادية وحدها يمكن أن تكون المعيار للأخلاق هو افتراض مثير للجدل، ولا يتفق عليه جميع الفلاسفة أو الثقافات.
من بين هذه الثقافات، نجد أن الإسلام يقدم رؤية مختلفة للأخلاق. في الثقافة الإسلامية، تُستمد الأخلاقيات من الأوامر الإلهية، حيث يُعتقد أن المصلحة الحقيقية للفرد تكمن في اتباع ما جاء به الشرع، بغض النظر عن النتائج المادية أو الآنية. فالأخلاقيات في الإسلام لا تُستمد من نتائج الأفعال، بل تكون خيرية الفعل متأصلة فيه. فالصدق يُعتبر فعلًا أخلاقيًا بطبيعته، والكذب يُعد فعلًا غير أخلاقي، ولا يمكن للكذب أن يتحول إلى فعل أخلاقي حتى لو أدى إلى نتائج جيدة، على عكس ما تروج له أخلاقيات الواقعية السياسية.
الفرق الأساسي بين الأخلاقيات في الإسلام وبين الواقعية السياسية يكمن في أن الإسلام يركز على النتائج الأخروية للأفعال، وليس فقط على النتائج الدنيوية. في الإسلام، لا يمكن الفصل بين مساري العالم الشهودي (الدنيوي) والعالم الغيبي (الأخروي)، إذ يُعتبر هذان المساران متداخلين بشكل جوهري في توجيه السلوك الاختياري للفرد والمجتمع.
النتائج في الحياة الآخرة تُعد جزءًا أساسيًا من هذا التوجيه، حيث ترتبط القرارات والأفعال الدنيوية بشكل مباشر بما يؤمن به المسلمون من حساب وعقاب في الآخرة. هذه الرؤية تتجاوز الاعتبارات المادية الآنية، وتضع الأخلاق والواجبات الدينية في إطار شامل يمتد إلى ما بعد “الحياة الدنيا”.
في المقابل، تركز الواقعية السياسية الأمريكية وكثير من الفلسفات السياسية الغربية على النتائج المادية الحاضرة في هذا العالم الشهودي، متجاهلة إلى حد كبير أي أبعاد غيبية. تعتمد هذه الفلسفات على تحقيق مصلحة الدولة أو الفرد من خلال النتائج القابلة للقياس في الحاضر، سواء كانت على شكل قوة اقتصادية، نفوذ سياسي، أو استقرار اجتماعي. ولا تُولي هذه الفلسفات أي اعتبار للعالم الغيبي أو للحياة الآخرة في توجيه الأفعال، مما يعكس اختلافًا جذريًا في المفاهيم الأخلاقية والسياسية بين الإسلام وهذه الفلسفات.
المعتقدات الكبرى في مواجهة الهيمنة.. دور القيم في تعزيز المقاومة
وبالتالي، فإن أي مشروع يسعى لمقاومة الهيمنة السياسية والاقتصادية الأمريكية يجب أن يستند إلى يقينيات كبرى تتجاوز حدود الواقعية السياسية الغربية. من هذه اليقينيات في الإسلام، الاعتقاد بأن دفع الظلم وإقامة العدل هما من الأوامر الإلهية المركزية، وأن الوقوف ضد الظلم هو واجب أخلاقي بغض النظر عن النتائج المادية التي قد تترتب عليه.
بناءً على ما سبق، لا بد من وجود منطلقات كبرى تؤمن بها حركات المقاومة، تكون خارج سياق الواقعية السياسية ذات الحسابات المادية الصرفة. هذه المنطلقات قد تشمل الإيمان بالله واليوم الآخر، أو قيمًا إنسانية كبرى مثل الحرية والكرامة.
عند النظر إلى واقع المقاومة اليوم، يمكن القول إن النموذج الإسلامي يمثل أحد أقوى وأصلب النماذج، ربما لأن التصور الإسلامي لمفهوم المخلوقية واستحضار عالم الغيب يعزز من صلابة القيم التي تدفع نحو المقاومة، ويوفّر العمق العقائدي لمفاهيم التضحية والصمود.
تمنح هذه القيم المقاوم دافعًا أخلاقيًا وروحيًا يتجاوز مجرد حسابات المكاسب والخسائر المادية. كما تشكل هذه القيم والمفاهيم الروحية عوامل مضاعفة للقوة المادية، حيث تساهم بشكل كبير في تعزيز المعنويات والصلابة النفسية للأفراد. فالشخصية التي تمتلك معنويات عالية وقوة روحية قادرة على مواجهة التحديات بقوة أكبر، مما يزيد من قدرتها على الابتكار والتفكير الاستراتيجي في مواجهة الظروف الصعبة.
هذا التماسك النفسي والروحي يحفّز في الإبداع التكتيكي والاستراتيجي في استعمال القدرات المادية المتاحة، وهو ما نلاحظه في تجارب المقاومة على مر التاريخ. ابتداءً من المقاومة الفيتنامية التي نجحت في مواجهة قوة عسكرية عظمى كالولايات المتحدة، وصولًا إلى حركات المقاومة في غزة، نجد أن الروح العالية للمقاومين ساهمت في تطوير تكتيكات عسكرية مبتكرة ومؤثرة، رغم الفجوة الهائلة في القدرات المادية.
فالقيم مثل التضحية، الإيمان بالقضية، والصبر على المشاق، تمنح المقاتل دافعًا يتجاوز حدود المنطق المادي، مما يتيح له القدرة على استخدام الموارد المحدودة بطرق غير تقليدية، وتحقيق نجاحات عسكرية رغم عدم التوازن في القوة المادية. لذلك، لا بد لمشاريع المقاومة أن تمتلك قيمًا ومعتقدات كبرى تغذي فيها العوامل الروحية والنفسية، لأنها ستواجه عدوًا يتفوق عليها ماديًا بعشرات المرات، وبالتالي تحتاج إلى عوامل غير مادية تمنح المقاوم أفضلية من نوع آخر.
المقاومة.. مشروع يتجاوز حدود الواقعية السياسية
إذن، لا يمكن لمشروع المقاومة أن يكون واقعيًا وفقًا للمفهوم الأمريكي للواقعية، بل يجب أن يكون عقائديًا وقيميًا، لا يأبه بالخسارة المادية، بل ينظر إليها كتضحيات ذات أبعاد غيبية وأخلاقية. لذلك، لا ضير أن تخسر المقاومة قائدًا هنا أو معركة هناك، بل ربما تخسر مشروعها برمته اليوم، فهي ملزمة بالمقاومة مهما كانت النتائج كارثية.
المقاوم، في هذا السياق، ليس متهورًا أو مغفلًا، بل هو شجاع وشريف، ملتزم بالمبادئ والقيم والمشاعر الإنسانية الفطرية التي تحركه. فإذا كانت الواقعية السياسية المهيمنة على العالم اليوم تقلل من قيمة الشجاعة والشرف والكرامة، فهذا لا يعني أن هذه القيم قد فقدت أهميتها أو أصبحت فارغة.
بل على العكس، إن تشويه هذه القيم الإنسانية يُعد جزءًا من المشروع الأمريكي، الذي يسعى إلى تحويل المقاومة إلى نموذج “غير حضاري” في أعين الناس، كجزء من الحرب الثقافية الناعمة.
للأسف، وبفعل التأثير الثقافي الأمريكي، أصبح البعض ينظر إلى نموذج المقاوم بعين السخرية أو التهكم، معتبرين أن التضحيات التي يقدمها غير منطقية في مواجهة التفوق المادي الهائل للمحتل. في حين أن المقاوم يؤمن بأن التضحية من أجل الحرية والكرامة تستحق كل ما يبذله، حتى وإن كانت النتائج المادية سلبية.
هذا الصدام بين القيم المادية والقيم الأخلاقية والروحية يجعل من مشروع المقاومة أكثر من مجرد مواجهة عسكرية أو سياسية؛ إنه تعبير عن التمسك بالمبادئ الإنسانية في وجه قوة مادية تسعى إلى محوها. لذلك، فإن المقاومة اليوم تُعد دفاعًا عن الإنسانية ذاتها، وردعًا لمحاولات تشويه الفطرة التي تحترم مشاعر الإيمان، والتحرر، والكرامة، بينما لا يُقيم النموذج المادي لها أي اعتبار.
التحرر والعدالة في مواجهة القوة المادية.. ملامح صراع ممتد
وضعت عملية “طوفان الأقصى” الشرق الأوسط في صراع بين نموذجين: النموذج التحرري الذي تمثله المقاومة، والقائم على قيم التحرر والعدالة ويتبنى استراتيجيات عسكرية تجمع بين الشجاعة والحكمة، مستمدًا قوته من مبادئ عقائدية تمنحه بعدًا أخلاقيًا يتجاوز الحسابات المادية. في المقابل، نجد النموذج الاستعماري الذي يمثله المشروع الإسرائيلي المدعوم من القوى الغربية، والذي يعتمد على القوة العسكرية والنفوذ السياسي، متبنيًا قيمًا مادية ونفعية تركز على المصالح الآنية.
الانقسام بين هذين النموذجين يعبر عن صدام بين فلسفتين أخلاقيتين متعارضتين: الأولى هي فلسفة مبادئية أصيلة، قائمة على الإيمان والالتزام الروحي المستمر، والذي يمتد تأثيره على مدار الزمن ويستهدف تحقيق العدالة والحرية. أما الفلسفة الثانية فهي نفعية، مفرطة في ماديتها، تركز على تحقيق الأهداف المادية المؤقتة دون الاهتمام بالقيم الروحية أو الأخلاقية المستدامة. هذا الصدام يعكس التحدي الأكبر في منطقة الشرق الأوسط اليوم، حيث يتنافس النموذجان على تحديد مستقبل المنطقة وطبيعة القيم التي ستحكمها.
من تجليات هذا التباين، أن “إسرائيل” تسعى دائمًا إلى تحقيق نصر حاسم، خاطف، وزهيد الثمن، لا يكلّف جيشها أو مجتمعها أعباء خوض حروب طويلة، لأنها ببساطة لا تقوى على ذلك. في المقابل، تمتلك المقاومة القدرة على إدارة الصراع بنفَس أطول وصبر أمتن، إذ يؤمن لها البعد القيمي والروحي القدرة على امتصاص الآثار السلبية للحروب. على الجانب الآخر، يعتمد الاسرائيليون على قوتهم المادية، وعندما تتعرض هذه القوة للانكسار، كما حدث في السابع من أكتوبر وما تلاه، يفقد المجتمع “الإسرائيلي” القدرة على تحصين نفسه نفسيًا ومعنويًا، وتصاب الدولة بحالة من الهستيريا.
عندئذ، تبدأ التصرف كـ”أزعر الحي” الذي تلقى صفعة أفقدته هيبته، وصار أكبر همه الانتقام. في هذه الحالة، يفقد العدو القدرة على التفكير الاستراتيجي، فلا نجد إبداعًا في استخدام قوته المادية لتحقيق أهدافه السياسية، بل يلجأ إلى القتل والتنكيل فقط لتأكيد قوته، بعدما تنفد أدواته الأخرى، رغم تطورها وتنوعها.
ثقافة الصبر مقابل ثقافة الانتصار السريع
وهنا يكمن الفارق الجوهري بين ثقافة الصبر والمقاومة وثقافة الانتصارات السريعة الخاطفة، التي تشكل جزءًا واسعًا من العقيدة العسكرية الإسرائيلية. تعتمد المقاومة على الإعداد والحشد والتخطيط بعيد المدى، وتصبر على أذى العدو، مستغلة هفواته. لديها هدف محوري واضح، وتعمل على مراكمة الانتصارات في سبيل الوصول إليه.
أما الكيان المؤقت، فيسعى لتحقيق انتصار سريع، حاسم، وبأقل تكلفة ممكنة. لكن هذا السعي يجعله يقع في اضطراب استخدام قوته المادية الهائلة. في المقابل، يبدع المقاوم في توظيف قوته المحدودة واستغلال الموارد بشكل استراتيجي على المدى الطويل.
ولو كانت المقاومة تتبنى هذه العقلية المادية البحتة، لكان انهيارها حتميًا عند امتلاكها أول صاروخ يصل إلى تل أبيب. لكن الواقع يثبت العكس؛ فقد نجحت المقاومة في إدارة صراع طويل الأمد يعتمد على الاستنزاف والصبر، بعيدًا عن الاعتماد المفرط على القوة المادية الفورية.
المقاومة.. دفاع عن الفطرة الإنسانية في وجه المادية المتغولة
إذن، المقاومة ليست مجرد عمل عسكري، بل هي تعبير ثوري عن حالة انقلاب فلسفي وعقائدي على الثقافة السائدة التي يمثلها اليوم النموذج الأمريكي. إنها تعبير وجداني يعكس علوّ القيم الإنسانية والفطرة السليمة على الإغراءات المادية. هي التجسيد العملي للتمسك بالمبادئ الأخلاقية والروحانية في مواجهة القوة المادية المعتدية، مما يجعلها رمزًا للصمود والتمسك بالعدالة والحرية في وجه الظلم والاستبداد.
المقاومة هي آخر سهام الفطرة في معركة فرضها الغرب بين الروح والمادة. هي آخر قلاع الإنسانية المدافعة عن قيمها الأصيلة، بعد أن أغرق الغرب العالم والأنظمة السياسية والمفاهيم والقيم ومناهج التعليم بالفلسفات المادية. حتى أصبح الحديث عن الدوافع الأخلاقية في العصر الأمريكي مثار سخرية وتهم جنون!
ربما تكون المعركة العسكرية بين الاحتلال والمقاومة، بما تمثله من تصادم كثيف بين ثقافتين متناقضتين، تمهيدًا لاستعادة توازن الإنسان بين المادة والروح، ليُدرك أن سيطرة المادة تُفسد الأرواح، وأن هذا الفساد مهلك للنوع البشري، وأن المادة خُلقت لتكون في خدمة الإنسان، لا لتتحكم فيه، وأن المنطق المادي غير قادر على تفسير السنن التاريخية والاجتماعية الجارية في الكون. لذلك، استطاعت الثقافة ذات الأبعاد الروحية إدارة صراع طويل مع عدو يتفوق عليها ماديًا بعشرات المرات، وأثبتت نجاعة البعد الأخلاقي والقيمي في التأثير على مجريات الحرب المادية، لأنها لم تقتصر على المنطق المادي المحدود في فهم الصراع وإدارته، بل اعتمدت على قوة القيم والأخلاق كمرتكز أساسي في توجيه مسار الحرب، مما مكّنها من الصمود وتحقيق التوازن رغم التفوق المادي للعدو.
_______________
(*) طالب ماجستير في العلوم السياسية – لبنان