ربما تمر مقولة: «المنتصر هو من يكتب التاريخ» على كثيرين منا مرور الكرام، لكنها كانت بالنسبة لتشرشل مقولة يجسدها، كيف وهو القائل: «لم أكن مخطئًا دائمًا، التاريخ سيثبت صحة مواقفي، خصوصًا أنني سأكتب ذلك التاريخ بنفسي»، وحين قال تشرشل عبارته الشهيرة تلك لم يكن حينها مدركًا لأهمية من يكتب التاريخ فحسب، بل أدرك كذلك أهمية الدعاية (البروباجندا) لمن أراد أن يسطر اسمه في كتب التاريخ، وفي ذاكرة المعاصرين بالصورة التي أراد، حتى لو كانت تلك الصورة من وحي خيال صاحبها، وقد كان له ما أراد.
فقد تم اختيار وينستون تشرشل كأعظم شخصية بريطانية على مر العصور في استطلاع وطني جذب أكثر من مليون صوت، وهذا رغم كونه مجرم حرب تسبب في وفاة ما يقارب 4 ملايين هندي في مجاعة البنغال الشهيرة عام 1943م، ورغم كونه عنصريًا حتى النخاع، فحينما نُبه إلى حجم الكارثة، كان رده مروعًا، فوفقًا لمدونات حكومية قال تشرشل وقتها: «إذا كان هناك مجاعة، فذلك بسبب أنهم (الهنود) يتكاثرون مثل الأرانب»، كما ذكر ذلك المؤرخ شاشي ثارور في كتابه «إمبراطورية بلا مجد».
ولم يتم الحديث عن تلك المجاعة في الروايات البريطانية في هذه الفترة، حيث يذكر ثارور في نفس الكتاب: تم استخدام الدعاية لتبييض صورة الإمبراطورية، حيث جرى طمس تفاصيل المجاعة في الروايات التاريخية البريطانية.
وقد أظهرت هذه العبارة استهتار تشرشل بحياة كل ما ليس بريطانيًا أبيض! كما سنرى عنصريته القميئة وهي تتكرر مع الفلسطينيين؛ ما يعكس عنصريته الممنهجة التي وثقها طارق علي في كتابه «تشرشل: عصره وجرائم».
هذا بالإضافة لكونه من أكبر المؤيدين لـ«وعد بلفور» (1917م) في عام 1921م، حين كان تشرشل وزيرًا للمستعمرات البريطانية، كما أقر سياسة هجرة اليهود إلى فلسطين وأعلن دعمه الصريح للصهيونية، وقد قال في تصريح شهير له: «لا أرى خطأ في أن يُحاول اليهود إنشاء وطن لهم في فلسطين، فهي أرض غير مستغلة بشكل كافٍ»، واصفًا العرب بأنهم «مجموعة من القرود الذين يعيشون على الأشجار»!
وفي ظل وجود بريطانيا، جرى قمع الثورات الفلسطينية بشدة، مثل ثورة عام 1936-1939م، بموافقة المسؤولين البريطانيين ومنهم تشرشل، بينما صُورت مقاومة الشعب الفلسطيني للإنجليز كإرهاب يجب دحضه، وهو سرد ساهمت فيه الدعاية البريطانية بشكل مباشر، تلك الدعاية التي تستمر إلى يومنا هذا، ففي فيلم «Darkest Hour» يظهر تشرشل على أنه مخرج بريطانيا من ظلمات النازية إلى نور الحرية متجاهلين تمامًا قصفه لمدينة دريسدن الألمانية، الذي حصد أرواح 25 ألف مدني في ليلة واحدة، ومحولًا المدينة من واحدة من أجمل المدن الألمانية آنذاك إلى هباء منثور، في قصف وُصف بأنه جريمة حرب، كما ذكر ذلك المؤرخ فريدريك تايلور حين قال: «لم يكن القصف موجهًا للمنشآت العسكرية بقدر ما كان لاستعراض القوة وترهيب السكان المدنيين».
لم يكن الفيلم وحده من تجاهل بالكلية جرائم تشرشل الاستعمارية والحربية، فقد استُخدمت صور تشرشل وخطبه الحماسية ومن أشهرها خطبة «سنقاتل على الشواطئ» كوسيلة لدغدغة مشاعر الجماهير أثناء الحرب، وجعلها تصطف خلف تشرشل؛ مما جعل صورته في أذهان الجماهير ترتبط بكونه زعيمًا قوميًا وبطلًا وطنيًا وقائدًا منتصرًا، إضافة إلى التعتيم الكامل على جرائمه الاستعمارية التي ارتُكبت حتى ضد الأوروبيين أنفسهم، فكان هو البادئ بقصف المدنيين حين قصف مدينة برلين، بخلاف ما دونته كثير من الكتب التي وثقت تلك الفترة بأن النازيين هم من بدؤوا الهجوم على المدنيين.
يمكن تلخيص دور الدعاية في رسم صورة تشرشل المخلص في 3 محاور رئيسة:
1- التلاعب الواعي والمنظم بآراء الجماهير:
تلك الجماهير التي وصفها غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير» بأنها تخلط بالحادثة ما يضيفه إليها خيالها المشوه، فما بالك بجماهير تم تغييبها عمدًا عن الواقع ولم تر منه إلا ما أحب أن يراه تشرشل؟! فمن عاصر من البريطانيين حقبته لم يسمع إلا خُطَبَه، أو من يتكلم عن عظمة خُطَبِه؛ مما جعله يبدو كشخصية أسطورية.
2- كتابة الماضي والحاضر والمستقبل:
يتم التلاعب بالذاكرة التاريخية للشعوب من خلال تزييف الحقائق التاريخية أو بعدم ذكرها ببساطة، وتشرشل ليس استثناء لتلك القاعدة، بل هو من أشهر أمثلتها، حيث يوجد حاليًا أكثر من 1600 كتاب عن تشرشل، علاوة على تخصيص عدة رفوف له في قسم السير الذاتية بمكتبة لندن تكاد الغالبية العظمى منها تسبح بحمده، هذا بخلاف الأفلام الوثائقية والسينمائية التي ترسخ نفس الصورة التي نجحت دعاية الحرب في رسمها عن تشرشل.
3- رجل قلَّ مثله في الوجود:
تُمثل «التشرتشلية» (Churchillism)؛ وهي مصطلح يشير إلى الأيديولوجية السياسية وأسلوب القيادة المرتبطين بوينستون تشرشل، تجليًا لدور الدعاية (البروباجندا) في جعل تشرشل بطلًا قوميًا يحن البريطانيون لمثله، بينما هم في الحقيقة يحنون لإمبراطورية مهيمنة كتلك التي كان تشرشل جزءًا منها، لكنها ولّت منذ زمن طويل، ولم يبق منها إلا أطلال يبكون عليها، فما كان منهم إلا أن سموا حاناتهم باسمه، اسمه الذي ارتبط في أذهانهم بعلامة النصر، والسيجار، والقبعة، بينما ارتبط في أذهان من تجرعوا كأس وحشيته وعنصريته بكونه من الأمثلة الفجة على تسطير المنتصرين ما يشاؤون في كتب التاريخ.