من أكبر محبطات ثواب الأعمال أن يمنّ الإنسان بفعله على فقير أو مستضعف أو محتاج، قرنه الله عز وجل بالأذى، وقد جعله الله عز وجل من الكبائر.
يقول د، سعيد عبدالعظيم: إن المن من النقائص الإنسانية المذمومة التي نهى عنها الإسلام التي يجب ألا يتصف بها المؤمن، فيقال: منّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة، وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى، وقد تكون المنة بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: المنة تهدم الصنيعة، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: إذا كفرت النعمة حسنت المنة.
والمنان من أسماء الله تعالى، ومنّ عليه مناً؛ أي أنعم عليه، وقيل: المن أخو المن، أي الامتنان بتعديد الصنائع أخو القطع والهدم، والمنون من النساء التي تزوج لمالها، فهي أبداً تمن على زوجها(1).
والمن هو: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك، وشبهه. (القرطبي)، وقيل هو: التحدث بما أعطى، حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه(2)، وقال أبو حيان: هو ذكر المنة للمنعم عليه على سبيل الفخر عليه بذلك، والاعتداد عليه بإحسانه(3).
التحذير الشرعي
حذر الله عز وجل عباده في كتابه العزيز من مسألة المن حين يبذلون أموالهم في سبيل الله كي يضمنوا أن يأتيهم ربهم الأجر العظيم مقابل إنفاقهم، فقال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 262).
ويقرن الله عز وجل المن بالأذى حين يقترفه المان فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 264).
ويأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في مطلع الرسالة بأوامر تتعلق بالعقيدة والعبادات والسلوك ويساوي بينها جميعاً، فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (المدثر)، وفي سياق مَنّ الأعراب بإسلامهم ونهيهم عن ذلك يقول تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {14} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {15} قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {16} يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات).
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» (رواه مسلم)
آثاره السيئة
المن صفة ذميمة تصيب الآخذ بكراهية المعطي، وتترك أثراً نفسياً عظيماً حين ينال منه المعطي بتصغيره وتحقيره وكسر خاطره وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام(4)، كذلك تحيل المعطي لإنسان لئيم، وتنزع عنه صفة الرجولة والمروءة والشهامة، وتصيبه بالخيلاء والرياء والنفاق وإحباط الأجر، فالمنة إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة وأفسدتها(5).
صوره ومظاهره
تتعدد صور المن في المجتمعات الإسلامية حسب صور العطاء الموجودة، فمنها ما يكون المن بالصدقة والمال والإنفاق على الفقراء والمحتاجين، ومنه ما يكون بالإقراض وقت الحاجة، ومنه ما يتعلق بتربية الأيتام فيذكرهم بما قدّمه لهم حين يكبرون بكثير من الصور، ومنه ما يتعلق بالعلم، فيمن على المتعلم بتعليمه إياه، وما إلى ذلك من صور المن التي تمتد أحياناً للأبوين فيمنوا على أبنائهم بالإنفاق عليهم وتربيتهم.
أسباب الوقوع فيه
كافة أمراض القلوب والسلوكيات السلبية والأعمال التي تهلك صاحبها منبعها الأول ضعف الإيمان، فالإيمان الحي حين يكتمل في القلب يمنع صاحبه مما يغضب الله عز وجل، أو يكدر صفو مسلم، أو يفعل ما يقطع أواصر المودة والمحبة بين المسلمين، وكذلك البخل يمثل سبباً قوياً للمن، حيث يبغض المنفق الإنفاق، وحين يضطر إليه فيذهب للمن معبراً عن غيظ قلبه.
الوسائل المعينة على تركه
تجنب الأسباب المؤدية للمن هي نفس الأسباب المعينة على تركه، فيجب على المنان البحث في قلبه، وتقوية إيمانه، وتحسين علاقته برب العالمين، ومعرفة الآثار المدمرة لمن يمن عليهم، وأن يحتسب أجر العطاء عند الله ويكون على يقين بذلك، وأن يعلم أنه مجرد مستأمن على حق الفقير عنده، والفضل كله يرجع لله عز وجل.
وقال ابن القيم: «أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيراً أو تصنع إليه معروفاً؛ فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك، فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر، وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه؛ فإنه عون لك على مضرتك ونقصك»(6).
أيضاً مصاحبة الصالحين، ومراقبة الله عز وجل، واستصغار المعروف وإخفاؤه عن الناس والحرص على ذلك، قال الجاحظ: «اعلم أن استصغارك نعمك يكبرها عند ذوي العقول، وسترك لها نشر لها عندهم؛ فانشرها بسترها، وكبرها باستصغارها»(7)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «لا يتم المعروف إلا بثلاث: تعجيله وتصغيره وستره؛ فإنه إذا عجله هنأه، وإذا صغره عظمه، وإذا ستره تممه»(8).
وكان يقال: أحيوا المعروف بإماتته، وتأويل ذلك أن الرجل إذا اعتد بمعروفه كدره، وكان يقال: كتمان المعروف من المنعم عليه كفر، وذكره من المنعم تكدير له، وقال قيس بن عاصم: يا بني تميم، اصحبوا من يذكر إحسانكم إليه، وينسى أياديه إليكم(9).
___________________
(1) كتاب «خلق المسلم».
(2) الجامع لأحكام القرآن (3/ 308).
(3) البحر المحيط (2/ 650).
(4) في ظلال القرآن (1/ 306).
(5) معالم السنن للخطابي (4/ 195).
(6) الفوائد (192).
(7) الرسائل (131).
(8) عيون الأخبار لابن قتيبة (3/ 197).
(9) الكامل للمبرد (1/ 145).