في الرابع والعشرين من أكتوبر 1945م، بدأ سريان ميثاق الأمم المتحدة، ومعه آمال كبار تضمنتها ديباجة الميثاق، فقد كان العالم كله يبدو مصراً على إنشاء عالم جديد يسوده السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية، وتتحرر فيه الشعوب المستعمرة من جلاديها، وتسود العلاقا
في الرابع والعشرين من أكتوبر 1945م، بدأ سريان ميثاق الأمم المتحدة، ومعه آمال كبار تضمنتها ديباجة الميثاق، فقد كان العالم كله يبدو مصراً على إنشاء عالم جديد يسوده السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية، وتتحرر فيه الشعوب المستعمرة من جلاديها، وتسود العلاقات الدولية مبادئ صارمة لضمان استقرارها، ولتوفر المناخ المناسب لهذا العالم الجديد، وأول هذه المبادئ أن يكون ميثاق الأمم المتحدة أسمى من كل الارتباطات الدولية الأخرى، وأن يكون مجلس الأمن هو حكومة العالم، وقراراته ملزمة بطبيعتها، كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي برلمان العالم، ويكون مجلس الأمن (الحكومة) مسؤولاً أمام هذا البرلمان مسؤولية شاملة.
أما المنازعات بين الدول فتسوى بالطرق السلمية السياسية والقانونية والقضائية، ويحظر حظراً تاماً استخدام القوة في العلاقات الدولية أو حتى مجرد التهديد بها، كما يحظر المساس بسيادة الدول ومبادئ المساواة بينها في السيادة، وكذلك يحظر التدخل في شؤونها الداخلية.
وتقوم محكمة العدل الدولية بالفصل في المنازعات القانونية، كما تعطي آراءً استشارية لكي تنير طريق الدول وتعينها على سلوك التسويات الودية، ولكي تقيم العدل المبني على القانون.
في هذا العالم الجديد الذي رسمه ميثاق الأمم المتحدة يسود التعاون والازدهار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويقف الجيش الدولي مستعداً بأوامر من حكومة مجلس الأمن لرد العدوان، كما أقر الميثاق للدول الحق الطبيعي في الدفاع الشرعي عن النفس فرداً وجماعات بضوابط محددة، حتى لا يتحول الدفاع الشرعي ذريعة للانتقام والعدوان.
كذلك يتضمن الميثاق أحكاماً انتقالية، أهمها تحالف العالم ضد ألمانيا واليابان إذا قررتا تهديد السلم والأمن الدوليين مرة أخرى.
والحق أن العالم عانى كثيراً من الحروب الثنائية والجماعية، خاصة الحرب الأولى والحرب الثانية التي راح ضحيتها ملايين البشر، والكثير من الموارد، وخلفت آلاماً يعجز عنها الوصف؛ ولذلك بدأت الديباجة بإبراز الشعوب التي توجه الحكومات؛ أملاً في أن الشعوب لا تتحارب، ولذلك أرادت هذه الشعوب بعد تجربة عصبة الأمم أن تنشئ عالماً خالياً من الحروب عن طريق تجفيف منابع التوتر، والتركيز على الحلول السياسية كخيار وحيد، ونزع سلاح الدول.
تلك هي الصورة الوردية التي ظهر فيها العالم يوم 24 أكتوبر 1945م، بعد أن صدقت معظم الدول الأعضاء، وكان عددها لا يتجاوز الأربعين دولة في غضون شهور قليلة بعد توقيع الميثاق في 24 يونيو 1945م، وبعد مرور 69 عاماً ماذا بقي من هذه الصورة الوردية لعالم خيالي جميل؟
قبل أن يجف المداد الذي كتب به الميثاق، أدرك العالم أن هذا الحلم الجميل أملته مسارح الحرب الثانية وأهوالها، ولكن واقعاً جديداً أعاد العالم إلى طبيعته التي تناساها الميثاق أملاً في تغيير العالم، فظلت هذه الصورة المثالية فقط عند المشتغلين بالقانون الذين أدركوا أن السياسة وتصارع المصالح تدوس بأقدامها هذه المثاليات القانونية، وظل العالم حتى الآن وإلى قيام الساعة يشهد الصراع بين القوة التي تصنع القانون، وبين القانون الذي يهذب القوة، ويعبر عادة عن هذه المسألة بالعلاقة بين القانون الدولي والعلاقات الدولية، حيث يؤدي القانون الدولي وظائف مهمة في العلاقات الدولية، إذا كانت العلاقات الدولية هي المحيط؛ فإن القانون الدولي هو الحواف الخارجية لهذا المحيط، ويُحمد للدول على مر العصور أنها لم تجاهر بإنكار القانون الدولي، ولكنها تفسر القانون وتطوعه لكي تضفي المشروعية على سلوكها السياسي.
الفارق بين المثال في الميثاق وبين الواقع هو درجة ضغط المصلحة على القانون، فالمصلحة تحميها القوة، ولكن القانون تحميه القوة إذا خدم المصلحة، وتحميه الأخلاق الدولية إذا افترق القانون عن المصلحة، ومن الواضح أن القوي هو الذي يطوع القانون، وأما الضعيف فهو الذي يلتحف بالقانون.
وفي ضوء ذلك، فإن العالم العربي الذي كان دائماً أضعف الحلقات في النظم الدولية، لم يستفد مطلقاً من الميثاق، وإنما ظل الميثاق أملاً ونموذجاً، أن العالم الذي وضع هذا الميثاق عام 1945م أدرك الواقع بعدها بخمسة أشهر عندما وقف “ونستون شرشل”، رئيس وزراء بريطانيا في جامعة فولتون في مارس 1946م ليعلن إنشاء الستار الحديدي؛ ليسجن بداخله الاتحاد السوفييتي، وهو تاريخ بداية الحرب الباردة التي استمرت قرابة نصف قرن.
وفي عام 1947م، صدر قرار تقسيم فلسطين بين أهلها والمهاجرين اليهود إليها، وحصل اليهود على أكثر مما حصل عليه أهلها، وانتهى الأمر في الذكرى 69 أن اليهود ضموا 80% من الأرض، ويخططون لطرد أهالي فلسطين ليستحوذوا على الباقي.
وفي عام 1948م صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكأنه يتكلم عن كوكب آخر، وفي عام 1949م صارت “إسرائيل” المغتصبة للأرض والمولودة خارج الرحم القانوني للميثاق عضواً في المنظمة الدولية الجديدة الذي يفترض أن الميثاق هو دستورها.
لا أغالي إذا قلت: إن ميثاق الأمم المتحدة ممتع في الدراسة، ولكن لا علاقة له بعالم اليوم؛ ولذلك تريد الولايات المتحدة أن يكون قانون الغاب اليوم هو الميثاق الجديد.. فهل ينجح العالم في إعادة الدول إلى مثاليات الميثاق، أم يستسلم للواقع ويتخلى عن حلمه الذي طال انتظاره سبعين عاماً؟!