منذ أن خطف تنظيم “داعش” الإرهابي الكرواتي توميسلاف سالوبك في مصر في الثاني والعشرين من يوليو الماضي إلى أن أعلن التنظيم مقتل توميسلاف في الثاني عشر من أغسطس، وجد المسلمون في كرواتيا أنفسهم في قفص الاتهام للدفاع عن دينهم الذي بات صيداً رخيصاً لأبواق دعاة “الإسلاموفوبيا”، وتجاوز الأمر إلى تشويه صورة البوسنة المجاورة لكرواتيا التي تتهمها بعض وسائل الإعلام الكرواتية بأنها تأوي جهاديين وهابيين، بينما كان المسلمون سواء في البوسنة أو كرواتيا يكافحون على كافة الأصعدة للتأكيد على أن دينهم دين الرحمة والتسامح.
لم تتوانَ المشيخة الإسلامية في كرواتيا (الهيئة الرسمية التي تمثل المسلمين) عن التدخل لدى كافة الجهات والمؤسسات الدبلوماسية والإسلامية في العالم الإسلامي من أجل إنقاذ توميسلاف البالغ من العمر 31 عاماً، ويعمل رساماً للخرائط الطبوغرافية، وقد ذهب مع شركة نفط فرنسية إلى مصر بحثاً عن لقمة عيش لأسرته، وشاءت الأقدار أن يكون الضحية الغربية التاسعة لوحوش يطلقون على أنفسهم “تنظيم الدولة الإسلامية”، وهم في واقع الأمر يشوهون صورة الإسلام ويجلبون العار والمتاعب للمسلمين في البلقان وأوروبا والعالم.
لكن دعوة كوليندا كيتاروفيتش، رئيسة كرواتيا، للمؤسسات الكرواتية والمواطنين إلى التصرف بحكمة وتحمل المسؤولية مع توجيه الشكر إلى المشيخة الإسلامية على جهدها في إنقاذ توميسلاف، جاءت لتقطع الطريق على المتطرفين في كرواتيا من التعرض للأقلية المسلمة التي لا تتجاوز نسبتها من سكان كرواتيا 3%.
أسباب تأخر كرواتيا في تأكيد مقتل توميسلاف
لم تؤكد السلطات الكرواتية بعد مقتل توميسلاف، وقالت رئيسة البلاد ورئيس الوزراء زوران ميلانوفيتش: إن جميع المؤسسات تبذل كل ما في وسعها للعثور على توميسلاف حتى لو كان هناك بصيص أمل.
يأتي ذلك مع الإعلان عن روايات مختلفة، منها ما أعلنته وزيرة الخارجية فيسنا بوسيتش، أن تنظيماً جهادياً اختطفه وتنظيم آخر طلب فدية قدرت بثلاثين مليون دولار لإطلاقه، ومنها أيضاً ما أعلنه التنظيم في شريط فيديو يوم الخامس من أغسطس يطلب فيه الإفراج عن “نساء مسلمات” مقابل إطلاق سراح توميسلاف في غضون 48 ساعة، وهو مطلب غير واضح، إذ إن هناك المئات وربما الآلاف من النساء المسلمات في السجون المصرية.
بالطبع لم يخاطب “داعش” السلطات الكرواتية، إذ أثبتت الحالات المماثلة السابقة أن التنظيم لا يتفاوض مع أحد من ذوي الضحايا، وحتى لو تطايرت تأويلات وتبريرات للتفاوض لكنها في الغالب ما تكون من الجهات الرسمية التابعة للضحية، وهذا ما حدث مع الطيار الأردني وغيره، وهذا أيضاً ما يفسر الصورة الفوتوغرافية التي عرضها تنظيم ولاية سيناء في الثاني عشر من أغسطس على حسابه في “تويتر”، وقال: إنها لجثة توميسلاف، وكتب عليها باللغة العربية إدانة لكرواتيا لاشتراكها في التحالف الدولي المحارب للتنظيم بالإضافة إلى تسجيل صوتي، أكد فيه التنظيم مقتل توميسلاف.
ورغم أن خبراء أمنيين خلصوا إلى اكتشاف أخطاء في مونتاج شريط الفيديو استنتجوا منها أن توميسلاف ربما قد يكون على قيد الحياة أو حتى يمكن تحديد مكانه، كما تعمل المخابرات الكرواتية على تحليل الصورة الفوتوغرافية والتسجيل الصوتي اللذين نشرها التنظيم بهذا الخصوص.
تداعيات الحادث
بعيداً عن هذا الأمل الكرواتي في أن يكون توميسلاف حياً وربما يكون وراء ذلك خلفية سياسية، إذ إن العديد من الأسئلة سيطرحها الرأي العام الكرواتي على المسؤولين، ومنها: هل تشارك كرواتيا فعلاً في التحالف الدولي لمحاربة “داعش”؟ ماذا عن أمن وتحركات الكروات في العالم؟ ولماذا تشارك كرواتيا في تحالف قد يعرض أمن مواطنيها للخطر؟ وما المصالح التي ستعود على كرواتيا من جراء الاشتراك في هذا التحالف؟
ويدعم طرح هذه الأسئلة أن بعض المحللين ذهبوا إلى أن السبب الرئيس وراء قتل “داعش” لتوميسلاف هو الانتقام من كرواتيا بسبب عضويتها في التحالف الدولي لمحاربة التنظيم، غير أن وزيرة الخارجية الكرواتية تنفي ذلك قائلة: إن الإرهاب مشكلة عالمية، وأن نيجيريا مثلاً ليست عضواً في التحالف المحارب لـ”داعش”، لكنها تعاني من هجمات دموية بين الحين والآخر، بينما قال رئيس الوزراء ميلانوفيتش: إن كرواتيا لا تحارب “داعش”، وستترك ذلك للآخرين.
غير أن الولايات المتحدة كانت قد أعلنت في سبتمبر 2014م أن كرواتيا انضمت إلى التحالف لمحاربة “داعش”، وبعد إلحاح وسائل الإعلام الكرواتية لمعرفة الحقيقة فسرت الخارجية الكرواتية انضمامها إلى التحالف بوصفها عضواً في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وأن هذه المشاركة قاصرة على تعاون محدود مع السلطات العراقية والكردية، وتحديداً تسليح المقاتلين الأكراد الذين يقاتلون “داعش”، خاصة وأن مخازن السلاح الكرواتية تعج بأسلحة خلفتها الحرب التي شهدتها البلاد في التسعينيات ضد الانفصاليين الصرب قد تكون كرواتيا في غنى عنها.
ومعروف أن التنظيم وعلى لسان أحد قادته هو أبو محمد العدناني، حث أتباعه في وصية مسجلة بعدة لغات على قتل مواطني دول التحالف الدولي فور الإعلان عن تشكيله خاصة الأمريكيين والأوروبيين.
تداعيات الحادث على مصر
اكتسب الحادث بُعداً آخر، خاصة أنه جاء بعد احتفالية افتتاح تفريعة قناة السويس الجديدة التي حاول النظام المصري من خلاله تحسين صورته في ظل الفجوة الأمنية التي تعيشها البلاد، ومن هنا لم يكن المحللون والخبراء الأمنيون في كرواتيا على ثقة كافية في أن السلطات المصرية ستنجح في إنقاذ توميسلاف؛ لأنها لا تزال غير قادرة على السيطرة على التنظيم، بدليل خطفه من القاهرة وقتله في سيناء، كما أن حادثة توميسلاف أعادت الصورة المشوشة عن أمن مصر لدى لمستثمرين والسياح الأجانب، ويكفي أن جميع الشركات السياحية في كرواتيا ألغت جميع حجوزاتها في مصر، رغم أن الخارجية الكرواتية لم تصدر أي تحذير من السفر إلى مصر، كما هي الحال فيما يتعلق بالسفر إلى اليمن وليبيا وغيرهما، ويحمل الحادث السلطات المصرية مزيداً من المسؤولية، خاصة وأن الخارجية الكرواتية طلبت تشديد الحماية لنحو ثمانين كرواتياً لا يزالون يعملون في مصر.
ومن هنا، يمكن القول: إن الهدف الفرعي لـ”داعش” هو المناورة أو المقامرة على فدية مالية أو حتى المطالبة بالإفراج عن معتقلين، لكن الهدف الرئيس هو ضرب عصفورين؛ الأول: الانتقام من كرواتيا؛ لأنها عضو في التحالف الدولي لمحاربته، والثاني: الانتقام من مصر بسبب العمليات العسكرية ضد التنظيم في سيناء، بحجر واحد هو قتل شاب بريء لم تكن له أي خلفيات أيديولوجية ولا حتى دينية.