“أحبه.. لا أقدر على نسيانه.. أطفئوا لواعج قلبي.. حبه يحاصرني في كل مكان.. طيفه معي أينما حللت.. قد سكن الحشا، وشغاف القلب يعشقه.. لا أقوى على الهروب منه.. أحلم به ليل نهار”.
كلمات لطالما سمعناها، وللأسف ليس في الأفلام، وإنما ممّن اكتوى بنار الحب حتى فقد لذة العيش من دون من يهوى.. وقد انتشر هذا العشق في هذا الزمن بشكل ملفت وغريب، حتى ليكاد يكون مرض العصر بلا منازع..
لا أدري كيف أطرح هذا الموضوع المعضل؟ ومن أين أبدأ؟!
أخبرني طبيب نفسي مسلم ويعمل في الحقل الدعوي عن دراسة قام بها بغية إيجاد المشكلة الرئيسة التي تعترض شبابنا، فوجد أنها “الجنس الآخر”!! وما عناه أخي الطبيب كان المشاعر التي يحملها الشاب للفتاة والفتاة للشاب، ولا تكون مكلّلة برباط شرعي. فيحلم وتحلم.. ويتألم وتتألم.. وتنشغل عن ربها وينشغل.. وتتوه الدعوة في حبائل “الحب” الذي يكون غالباً وهمياً أو من طرف واحد، أو غير قابل للترجمة العملية الشرعية من خطوبة وزواج..
أسئلة كثيرة تُطرَح.. ما منبع هذا الحب؟ أهو الفطرة؟ أم شهوة؟ أهو الفراغ؟ أم الحاجة إلى الحنان المفقود من أب وأخ وعم وأم؟ أم الرغبة في تجربة عاشها أناس قريبون أو ممثلون على شاشة كبيرة أو صغيرة؟ أم وسوسة شيطان؟ أم الفراغ العاطفي وفقدان الوازع الديني؟
وكيف السبيل إلى الترفع عن هذه العلاقة، وخاصة إن كانت تسير في طريق مسدود! وما البديل؟
مشاكل متعدّدة وقعت لفئة من شباب وشابات أمّتنا، ضيّعهم حبٌّ أقل ما يمكن أن يُقال عنه “سراب”، يحسبه الظمآن ماء.. حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً..
بداية، يجب علينا أن نُقِرّ بوجود هذا الميل الطبيعي بين الجنسين الناتج عن الفطرة التي غرسها ربنا جلّ وعلا في النفس البشريّة؛ لغاية كبرى وهي عمارة الأرض. فهي غريزة وحاجة في النفس وطاقة لا يستطيع المرء التخلص منها، ولكن العاقل من يجريها في جدول حلال! كما علينا ألا نعنِّف من يعيش هذه الحالة التي يجدها في نفسه، وكأنّ الأمر كارثة حلَّت وخطيئة عُظمى ارتُكِبَت، ولن توجَد لها توبة أو أن حراماً وقع على المذاهب الأربعة!
ماهية الحب
دعونا نبدأ بتعريف ماهية هذا الشعور الذي يُطلِقون عليه اسم “الحب”، ولنعرّج على نظرة الشرع له قبل التوغل في تحري هذه الظاهرة خارج الأُطُر الشرعية، وعرض حلول لها.
إنّ خلق السماوات والأرض بُنِيَ على الحب {يحبّهم ويحبّونه}، فلولا محبّة الله جل وعلا لعباده لما خلق لهم الكون لينعموا فيه. يقول ابن القيِّم في كتابه روضة المحبين: “حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم، وحركات الملائكة والحيوانات، وحركة كل متحرك.. إنما وجدت بسبب الحب”! وبهذا الحب تسهل التضحية والعمل للوصول للهدف المنشود مهما كان. يقول الداعية راتب النابلسي: “الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، وغذاء العقل العلمُ، وغذاء القلب الحبُ..” فالحب هو المحرِّك والوقود، ومستودع هذا الحب هو القلب الذي إذا صلُح صلح الجسد كله، وإذا فسد فقد تعس في الدنيا والآخرة! هذا الحب الذي يرفع ويرقى بالروح ويشحذ الهمّة على العمل.. فماذا عن الحب بين الشاب والفتاة؟ وهل يندرج تحت ظل هذا الحب المحمود؟ أم هو يجعل صاحبه يرتكس في الرذيلة ويهوي به في واد سحيق من الدنو والانحلال؟
يعرّفون العشق بأنّه “الميْل الدائم بالقلب الهائم، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب حضوراً وغياباً، وإيثار ما يريده المحبوب على ما عداه، والطواعية الكاملة، والذكر الدائم وعدم السلوان.. ” ويترتّب عليه “عمى القلب عن رؤية غير المحبوب، وصَمَمهُ عن سماع العذل فيه“.
وقد حلّل الفيلسوف البريطاني “هربرت سبنسر” عاطفة الحب فردّها إلى عدّة عناصر أهمّها: “الشعور بالجمال.. الانجذاب.. الدافع الغريزي.. الإعجاب والاستحسان.. التقارب النفسي والألفة والصفاء والمودة“.
ويقول ثمامة بن أشرس: “العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب ملك، مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جارية، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعقول وآراءها، قد أعطي عنان طاعتها وقوة تصرفها. توارى عن الأبصار مدخله. وعمي في القلوب مسلكه“!
في ميزان الشرع
ما إن يتعلّق قلب شاب بفتاة أو العكس، يبدأ الحب يسري في الكيان، وتبدأ الرغبة تقوى في القرب من المحبوب والتودّد له وملازمته وعدم البعد عنه. وهنا نطرح السؤال المهم: هل يُعتَبر هذا النوع من الحب حراماً؟!
يقول الطنطاوي رحمه الله: “ما في الحب شيء ولا على المحبّين من سبيل، إنّما السبيل على من ينسى في الحبّ دينه أو يضيّع خلقه، أو يشتري بلذّة لحظة في الدنيا عذاب ألف سنة في جهنّم..”
وقد أقرّ الحبيب -عليه الصلاة والسلام- هذه العاطفة، ولذلك جاء في حديث ابن عباس: “لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح”، فلم يُنكِر الحب، ولم يتهم المحبّين بالعبث واللهو! وإنما وضعه ضمن إطاره الطبيعي الذي هو الزواج، بل أكثر من ذلك، فلقد شفع الحبيب -عليه الصلاة والسلام- لـ”مغيث” بعدما رأى كيف تمكّن الحب في قلبه. فقد روى البخاري في صحيحه من قصة “بريرة” أن زوجها كان يمشي خلفها بعد فراقها له، وقد صارت أجنبية منه، ودموعه تسيل على خديه. فقال النبي: “يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا؟” ثم قال لها: “لو راجعتيه” فقالت: أتأمرني؟ فقال: “إنما أنا شافع“. قالت: لا حاجة لي فيه!
فالحب ليس حراماً في ذاته، ولكنه يدخل دائرة الحرام حين يتم التعبير عنه خارج الأطر الشرعية. فما دام حبيس النفس ولا يدري به إلا الخالق جلَّ وعلا والمرء نفسه فيندرج تحت قول الحبيب عليه الصلاة والسلام: “اللهمّ هذا قدري فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك“. ليس في الإسلام حرماناً، وإنما هناك تنظيماً لكافة شؤون المسلمين بما يصلح دينهم ودنياهم، وتوجيهاً طاهراً لضمان طهارة الأرواح والأنساب والمجتمع.
هل الحب اختياري؟
تُرى.. هل الحب اختياري؟ وهل يستطيع المرء كبح جماح نفسه حين ينتابه هذا الشعور أو قطع أواصره حين يتفاقم في القلب؟
يقول ابن القيم: إنّ الأهواء لا تكون في بدايتها سوى خاطر عابر، ثم يتدرّج في مراحل، حتى تصل إلى مرحلة العادة التي يصعب الفكاك عنها. إذاً فالبداية يمكن حدّها، حين يتسلل هذا الشعور إلى النفس على المرء أن يبتعد عما يؤجّجه، إن كان يخشى على دينه وقلبه، وهو يعلم أنه لا يستطيع الزواج من الطرف الآخر.. فيردم حفرة الإعجاب قبل أن يتطور الأمر إلى علاقة وطيدة ينتزعها الحرام من كل جانب في لقاءات وأحاديث ومواعيد ومراسلات وتقرّب وتودّد.. وقد تصل الأمور إلى الملامسة المحرّمة وسلوكيات لا يرضاها المولى جل وعلا.
ويعتقد البعض أنه يجب أن توضَع على القلوب أقفالها فلا تُفتَح إلا حين يكون الوضع سليماً، وفي الوقت المناسب.. فلكل شيء أوانه.
بينما يؤكّد البعض الآخر أن “الحب” لا يمكن السيطرة عليه، فهو كالمدّ الجارف الذي يجتاح القلب، فتتحوّل الحياة بعده إلى زوبعة لا تهدأ!
إذاً أعود للتأكيد أن الأساس ألا يبوح المحِبّ بهذه المشاعر لمحبوبه؛ حتى لا يدخل دائرة الحرام فيُحاسب.. يقول ابن القيم: “وحسب قتيل العشق أن يصح له هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما على أنه لا يدخل الجنّة حتى يصبر لله ويعف لله ويكتم لله، لكن العاشق إذا صبر وعفّ وكتم مع قدرته على معشوقه، وآثر محبة الله وخوفه ورضاه، هذا من أحق من دخل تحت قوله تعالى: {وأمّا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإّن الجنّة هي المأوى}”.
يقول الحسين بن مطير:
ونفسك أكرم عن أمور كثيرة *** فما لك نفس بعدها تستعيرها
ولا تقرب المرعى الحرام فإنما *** حلاوته تفنى ويبقى مريرها
ويقول ابن القيم رحمه الله: “القلب إذا أخلص عمله لله لم يتمكن منه العشق، فإنه يتمكن من القلب الفارغ“. وفي هذا السياق يقول قيس بن الملوح:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبا خاليا فتمكّنا
فهل حقاً هذا الهوى لا يطرق إلا قلباً خاوياً بعيداً عن الله جل وعلا؟ أم أن الجميع معرّض ليقع فيه؟
ما يمكن التأكيد عليه هو أن كلّ أحدٍ معرّض لهذا البلاء، ولكن درجة الإيمان هي التي تُعيد المرء إلى الجادة الحق، وإلى الله جل وعلا، فكلما ارتقى في مدارج السالكين، كلما كان إيابه أقرب، واستغفاره أشد، ووقوعه في الرذيلة أبعد.
نصائح علاجية
ونأتي إلى النقطة الأخيرة في معرض كلامنا في هذا المقال. أليس هناك من علاج لهذه المشاعر التي تتحرك بين الضلوع؟ وكيف السبيل للخروج من هذا الخندق؟
دعونا أولا نسأل أنفسنا: من الذي وهب لنا هذا القلب الذي ينبض بالحياة والحب؟ أليس الله جل وعلا؟ فكيف نقوى على أن يحوي هذا القلب حبيباً خارج أطر الشرع التي حدّدها الله جل وعلا؟؟
لنفكّر بمنطق وعقل، ما الذي سيورِثنا هذا الحب الذي لم نستطع ترجمته فعلياً لزواج شرعي؟ لذّة وفرح؟ كم تُعَدّ نسبة هذه الدقائق مقابل مشاعر الألم، إن من البُعد عن المحبوب أو من الخوف من الرحمن جلّ وعلا؟ أي أنسٍ نجده مع الله عز وجل وقد شُغِلنا بغيره؟ وقد وقع في قلب الشاب الذي عصى ولم يجد عقاباً من الله تعالى أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ.. ألم أحرمك لذة مناجاتي؟! ألا يكفيك هذا العقاب؟! أم تُرى قد مات القلب ولم يعد يشغله إلا محبوب بعيد عنه في الدنيا وفارّ منه يوم يكون لكل امرئ شأن يغنيه؟!
إن علاج هذا الحب وإن لم يرُق للكثير من المصابين به هو بتر العلاقة إن لم تكن مؤهّلة للتتويج بالزواج الشرعي.. فالاستمرار في توطيد العلاقة يؤدّي إلى استفحال حالة الهيام والعشق دون الوصول إلى نتيجة سوى التخبّط بأحلام وأماني وإلى الوصول يوماً إلى ذروة اليأس والألم.. وإن استطاع العاشق أن يخرج من كل المحيط الموجود فيه من يحب لكان خيراً وأجدى.. فلا لقاء ولا مكالمة ولا مراسلة ولا نظرة. ومن دون تدرج وإنما بتر وقطع فوري، هذا لمن خشي على نفسه الفتنة والبعد عن الله جل وعلا.
وهذا الأمر ليس بالهيّن ولا السهل، وإنما بحاجة إلى مجاهدة كبيرة، ولكن حين يعلم المرء أن في هذا القطع سلامة قلبه وحياته فلا بد من الكي لاستئصال الداء. وقد يأخذ الأمر وقتاً على حسب قدرة المحِب النفسيّة ودرجته الإيمانية وعمق علاقته مع المحبوب.. قد يعيش العاشق هذه الفترة في أرقٍ دائم وقلق رهيب وضيق صدر وشوق عارم وسهرٍ متواصل. وقد تخور القوى وتضعف الإرادة وتكون محاولة للتواصل. ولكنها مرحلة وتمضي ليعود القلب للحياة مرة أخرى. ونار البعد عن المعشوق أهون بدرجات من البعد عن الله جل وعلا في الدنيا والآخرة. وشتان بين حياة في عز وقرب من الله جل وعلا وبين التمرّغ في أوحال المعاصي! وهذا وعد الله جل وعلا بالأجر الكبير على الصبر: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.
وهنا لا بد أن أشير إلى أن لشخصية الإنسان أهمّية كبرى في تخطّي هذا الأمر أو الانصياع إليه، فالإرادة القوية سلاح قوي في يد المبتلى، ولا شك أن للمحيطين بالعاشق -من أهل ودعاة ومربّين- الأثر الكبير في مساعدته على الخروج من المحنة بدون خسائر كبيرة. والحياة لا تقف عجلتها عند أمنية لم تتحقق، أو حب لم يكتب له النهاية المرجوّة. تلك وساوس شيطانية ليُقعِد المؤمن عن العمل، ويبقى طريح اليأس والوهم. والمسألة تحكمها العادة، فإن نأى العاشق عن معشوقه وشغل نفسه بالدعوة والعمل وصدق الله جل وعلا في هذا البعد، فسيجد ثمرة جهاده خيراً، وسينسى بعد فترة من الزمن بل أكثر من ذلك، سيشعر العاشق كم أضاع من عمره على ما لا طائل منه ولا رجاء!
الدعاء وحب الله ورسوله
ومن أساليب العلاج من هذا العشق أيضاً، ولعلّ أهمها هو الدعاء والإلحاح فيه، وصدق التوجّه الى الله جل وعلا. ثم التضرّع الى الرحمن جل وعلا أن يصبِّر الفؤاد ويربط على القلب ويُشغِله بطاعته وذكره. يقول الله جل وعلا: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}. ثم التفكر في الله جل وعلا ومراقبته، والإيمان بأنّ من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، ذريّة صالحة وزوج كريم والله أكرم. وفي يوسف عليه السلام خير عبرة لمن أراد. ليس فقط في الدنيا، وإنما أيضاً في جنان الخلد والنعيم المقيم. يقول الحق تبارك وتعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}، فالانشغال بالأعمال الصالحة وخاصة الذكر وتلاوة القرآن التي تورِث سكينة وسعادة، والتفكّر في نعيم الجنّة وعذاب الآخرة، واختيار الصحبة الصالحة التي تذكِّر بالآخرة، وإشغال النفس والوقت بأنشطة محبّبة كالرياضة والزيارات والأنشطة الدعوية العامة وغيرها،
وقبل ذلك كله فليتفكّر المبتلى بالعشق كيف سيكون اللقاء مع الله جل وعلا يوم الحساب. وهل سيغنيه هذا العشق الدنيوي عن لذة رؤية الله جل وعلا ومرافقة الحبيب عليه الصلاة والسلام في الجنان،ورضا الله من قبل ومن بعد؟ ولربما إذا تفكّر العاشق بمآسي الأمّة، وكيف يتكالب عليها أعداؤها من كل جانب لشعر بتفاهة ما يمر به، وبتكبيل نفسه في أطرٍ ضيّقة والإسلام مطعون ومحارب. والدماء على طول الخارطة الإسلامية وعرضها. فإن عاش المرء لنفسه شقي، وإن عاش لهدف أكبر سَمَت النفس والقلب ارتقى.
وأنهي كلامي بموعظة مباركة قرأتها لو وعيَها القلب لوصل لدرجة القرب: “وحين يصدق المسلم في حبه لله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فإنه يتحرّر به من ضغوط المادة ودوافع الغريزة، ونزوات الذات وألوان الوهن والضعف البشري، وتنتظم به حياته وفق قِيَم سماوية وموازين علوية. فيتجاوز شوطه سنين هذه الحياة الدنيا إلى الرغبة في العيش الأبدي، وتسمو أهدافه على حرث الدنيا ومتاعها إلى نعيم لا يحول ولا يزول.
فحب المسلم لله ولرسوله حب رسالي مقدس: يجعل الشقاء سعادة في طاعتهما.. والسعادة شقاءً في عصيانهما.. والتعذيب راحة في سبيلهما.. والراحة عذاباً في مخالفتهما.. والموت حياة من أجلهما.. والحياة موتاً بدونهما.
—
* المصدر: مستشارك الخاص.