علم التاريخ ليس مجرد مطالعات في حوادث الأيام وتاريخ الإنسان، إنه أعمق دلالة وأبعد أثرا معرفيا؛ حيث يحوي قوانين وسنن الاجتماع والعمران البشري، وهذا يعني أن مادته المعلوماتية ينبغي أن يتعامل معها بمنطق استنباطي، وقبل ذلك بوعي منهجي وإيماني، يُعمل العقلَ ـ كما أراد الله سبحانه وتعالى ـ في صيرورة المجتمعات وحركة التاريخ: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين خلوا من قبلكم}، {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين خلوا من قبلهم}.
والوعي المنهجي الذي نعني هو الذي يتمكن أصحابه من تجاوز الإسقاطات الجزئية للحوادث إلى استنباط القوانين الكلية وسنن حركة المجتمعات؛ تطورا وارتكاسا، ولعل هذا العمل اليوم من ألح الواجبات؛ فانتكاسات الأعمال الإصلاحية ومواجهة المسار التاريخي لمجتمعاتنا لأزماتٍ متنوعة في شتى الجوانب، لا تستفحل إحداها إلا لتولّد زوائد مطماتٍ، فمن أزمة تنموية إلى أزمات حكم إلى أزمات اجتماعية إلى مصيبة نخب، كل ذلك يؤكد أن علة العلل كامنة في إصابة الفكر الإصلاحي، ولا شيء أثرى للفكر الإصلاحي من استنباط قوانين سيرورة الإصلاح والإفساد في المجتمعات، ولذلك قال ابن خلدون مؤسس علم التاريخ وعلم الاجتماع، وهو يشرح الجانب الأعمق في دراسة التاريخ: “إذ هو في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الواقع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، جدير في أن يعد من علومها وخليق”.
حركيّة التاريخ.. حيوية للفكر الإصلاحي
إن الخصائص التي تميز التاريخ، ووقائعه الحية، هو أمر يقرب الفكر الإصلاحي من ميدان الحياة ويبعده عن الصبغة التأملية الصرفة لتصبح عقلانية الفكر عقلنة للحياة، وتطبيقيةُ وعلميةُ التاريخ نمذجة للفكر التغييري والإصلاحي..
وعندها تصبح الإجابة على أسئلة الحاضر ممكنة، كما يغدو إطار النظر واسعا ومنطقيا وتجريبيا، باعتباره يعالج العقد الإصلاحية في معمل كبير هو حركة المجتمعات وهي تواجه تناقضاتها الداخلية ومغالباتها الخارجية.. وهنا يصبح الفكر الإصلاحي ليس أسير التنظيرات الفردية للرواد والتأملات المثالية للفلاسفة، بل نتاجا للمقارنات ولاستنباطات القوانين الحاكمة والسنن الاجتماعية.
هذه الواقعية والحركية تكتسب بعدا آخر مهما، حين يتولى المسلمون بأنفسهم، أصالة لا تقليدا، وابتداء لا تكريسا لمقولات سابقة، مهمة النظر في المسار الحضاري لمجتمعاتهم، باعتبارهم الأكثر تأهيلا لفهم دلالاته ومضامينه وحقائقه، ومن ثم هم المؤهلون لاستنباط مواطن الضعف ومكامن الخلل ومواقع الإشكال الحضاري، ومفاتيح التحرر والتكامل والاستقلال والنهوض..وهذا الأمر من الإلحاح اليوم بسبب تتالي المصائب والتعثرات بحيث لم يعد في الإمكان الإبطاء به ولا التراخي فيه، فكل المعيقات التي تواجه مجتمعاتنا هي بسبب من التلاقي المؤسف لأمرين؛ استفحال ونمو بذور مشكلات اجتماعية وحضارية لعهود انحطاط قريبة، وزهد في استكمال الجهود الإصلاحية لعدتها المعرفية والمنهجية لمواجهة تلك المشكلات الحضارية الطارئة.
إن الجهود الدراسية التي أخضع لها المسار التاريخي لمجتمعاتنا لا زالت قليلة، والشائع منها هو لوك بعض النخب العلمانية لمقولات المستشرقين.
عمل إصلاحي اجتماعي وخطة تغيير حركيّة
استنباط السنن من مراقبة “المسيرة الاجتماعية” أمر ملح على جبهتين:
جبهة الإصلاح الفكري العام لأحوال المجتمعات المسلمة، وقد أبلى الفكر الإسلامي بلاء حسنا في جوانب من هذا الأمر، فكرس الوعي الإسلامي الصحيح في جوانب كثيرة، ولكن استكمال مهمة الإصلاح الاجتماعي تطلب أيضا الاستعانة بأدواتها العلمية، ولذلك كان الفكر النهضوي الإسلامي في جوانبه العامة التي تنصرف إلى كليات العقد الحضارية والاجتماعية، مُقلا..وإذا كانت هناك دراسات اجتماعية حديثة ذات أصالة فهي ليست رائجة بحيث تشكل زخما توعويا عاما، ومن ثم لابد من سد الثغرة في هذه الجوانب، ولا شك أن الأفكار الإصلاحية العامة المتعلقة بالمجتمعات إذا لاقت الرواج بين الفئات المتعلمة أمكن أن تشكل ثقافة ستتحول إلى ظواهر من خلال طرق متعددة..
الجبهة الثانية هي جبهة الإصلاح الحركي، وأعني بها الجهود الجماعية العامة التي تبذل في أُطر جماعية، مؤسساتٍ ومبادرات وأحزابا وحركاتِ إصلاح، ولا شك أن الرؤى الكلية المبصرة والموفقة لأحوال الإصلاح الاجتماعي والسياسي يجب أن تكون تالية مباشرة للإحساس بألحيَّة هذا الإصلاح، أما أن يكتفي المصلحون بالاتفاق على وجود المشكل الحضاري؛ السياسي والاجتماعي، ثم يقررون العمل الحركي خلوا من أدوات هذا الإصلاح وبعيدا عن تشخيص مواطنه واشتقاق سبل مواجهته الصحيحة، فحينها يكون الأمر شبيها بعملية صوغ برامج حزبية لواقع بسيط.. أما حين يتعلق الأمر بمشكلات حضارية تحرسها أدوات وأنظمة وبلدان فسيكون هذا عملا محكوما بالفشل وضياع الجهود.
ولذلك باتت الأطر الحركية الإصلاحية ذاتها بؤرة للمشكلات، لأنها لم تتيقن من نفسها، وإنما كانت بمثابة هبات صادقة لم تؤسس رؤاها بما يكفي، خصوصا وهي تواجه مشكلات كبرى وفعاليات إفساد ذكية وخبيثة.
إن الجوانب السابقة هي مرافعة نرى أن حقائقها تمثل استعجالا لفعاليات الإصلاح، كتابا وحركيين، أفراد وجماعات للعناية بفلسفة التاريخ لا كونه عصا موسى التي ستُشق بها بحار الظّلمات، بل لكونها أحد موضوعات ومداخل إصلاح الإصلاح وتطوير المنهج الإصلاحي والحركي.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
—-
* المصدر: إسلام أون لاين