نشر موقع “هاف بوست عربي” مقالاً للمحامي المصري عصام سلطان، نائب رئيس حزب الوسط، المعتقل بسجن العقرب شديد الحراسة بمصر، يتحدث فيه عن معاناة المعتقلين وصمودهم، ومشاهداته وحواراته مع بعض المعتقلين من قيادات وشباب الإخوان.
وهذا نص المقال:
من الزنزانة رقم 14 بجواري مباشرة ينبعث أنين الألم والوجع، ألم العصب من ضرس المهندس إبراهيم أبو عوف (70 سنة) كان رئيساً للجنة الإسكان بمجلس شعب الثورة، وأميناً لحزب الحرية والعدالة بالمنصورة، يبحث أبو عوف في زنزانته عن حل فلا يجد، فرشاة الأسنان والمعجون محظورة، والعلاج بأنواعه ممنوع، حتى المسكنات ممنوعة، ننادي جميعاً على السجانين بأصوات عالية فلا يجيبون.
قبلها بأيام أخبرنا طبيب السجن وضابط المباحث أن لديهما أوامر بإطفاء المواتير! أي عدم الاستجابة لأي مشكلة أو حلها، يزداد الأنين بزيادة الألم، ينهض أحمد عارف، طبيب وجراح الفم والأسنان، واقفاً أمام “النظارة”، ويدور حوار طويل بينه وبين أبو عوف عن أي شيء موجود في زنزانته، يجد أبو عوف قطعة صغيرة من الصابون الميري (أسوأ أنواع الصابون في الدنيا)، ينصحه عارف بتدليك اللثة بقطعة الصابون، أتعجب وأسكت، فالصابون القلوي يعادل أحماض الفم المتسببة في ألم العصب، هكذا يشرح أحمد عارف، يمتثل أبو عوف للنصيحة، يختفي الألم وينام الرجل بسلام، في الصباح يتسلل المخبرون لاستقصاء الأمر، يعلمون حقيقة ما حدث، يصابون بالإحباط.
هكذا أتابع من خلال سنتيمترات أعلى باب زنزانتي الفولاذي رقم 13 بسجن العقرب، يسمونها النظارة، وأسميها البلكونة، أتابع المباراة أو المعركة المثيرة بين النظام والإخوان.
حتى الآن استخدم النظام كل وسائل التعذيب والبطش، بدءاً من منع الطعام والشراب والعلاج والزيارة والكتب والتريّض، وانتهاء باستخدام السلاح الحيّ والمواد الحارقة والكلاب البوليسية، كل ذلك في إطار برنامج مدروس لإخضاع الإخوان، وحتى الآن لم أرَ أحداً ما خضع أو تراجع.
مصطفى عبد العظيم (30 سنة) صاحب الفيديو الشهير والبلطجية يقطعونه بالسنج والمطاوي أمام مكتب الإرشاد يوم 30/ 6/ 2013، محكوم عليه بالإعدام، صوته لا يتوقف عن الغناء، معظمها بالطبع أغانٍ إسلامية إلا أغنية “شفت الفار السندق اللي أكل البندق”.
جهاد الحداد (35 سنة) نقص من وزنه 34 كيلو، ويعاني من ورم كبير بركبته، وأصيب بعدة إغماءات وممنوع عنه العلاج، ولكنه لا يتوقف عن التفكير والحركة والاجتهاد والإبداع، وكان آخر ما أنتجه مقالته الشهيرة في “نيويورك تايمز” التي عوقب عليها من إدارة السجن.
أحمد عارف (37 سنة) نقص من وزنه 49 كيلو، ويعاني من مشاكل في العمود الفقري، عالم موسوعي بمعنى الكلمة، ليس في طب الأسنان فقط ولكن أيضاً في علوم تفسير القرآن والفقه وغيرها، وقف أمام المحكمة ليفضح وقائع التعذيب التي تجري هنا بكل قوة وثقة، دون حساب لسجّانيه ومعذِّبيه الذين يهيمنون على زنزانته.
حسن القباني (33 سنة) صحفي واعد مجتهد، لا يتوقف عن النشاط والحركة وفتح كل الموضوعات، ولكن أهمها على الإطلاق تأليف الأشعار العاطفية والغزل في زوجته الفاضلة، مما يثير الغيرة والحسد عندي وعند غيري.
إذاً نحن أمام برنامج إخضاع أو تركيع أو تحبيط، على مدى أربع سنوات لم يؤتِ ثماره، ربما العكس، ربما كان الإحباط من نصيب إدارة السجن.
يقضي الإخوان وقتهم في الصلاة والصيام والقيام وبرامج يومية بين المغرب والعشاء تتضمن محاضرات ومسابقات وخواطر، ويحرصون على حفظ ومراجعة القرآن الكريم، والحصول على إجازة من الدكتور صفوت حجازي، الذي منعته إدارة السجن من مواصلة دروسه القيمة في السيرة النبوية، وأمهات المؤمنين، وتاريخ بني إسرائيل.
يحكي لنا خليل العقيد يومياً حلقات مسلسل “قيامة أرطغرل” كأنك تشاهده تماماً.
تدور بيني وبين الإخوان مناقشات في كثير من القضايا العامة والمواقف والقرارات التي صدرت عنهم، معظمهم يتفاعل، والقليل منهم يرى أن الجماعة لا تخطئ، وهي دائماً على حق، والشباب لا يعجبه هذا المسلك المتشنج.
بعد أن أنهيت محاضرتي عن تركيا وتاريخها الحديث، وتطور الحركة الإسلامية عقب إسقاط الخلافة الإسلامية، وصولاً إلى حزب الرفاه، بقيادة أربكان، ثم خروج مجموعة الشباب وانفصالهم عنه (أردوغان، وعبدالله جول، وداود أوغلو)، وتأسيسهم حزب العدالة والتنمية، وبدء مشاركتهم السياسية الواعية، ونجاحاتهم التي حققوها في معظم المجالات حتى الآن، صدر تعقيبان صادمان على المحاضرة من شخصيتين؛ أحدهما عضو بارز في مكتب الإرشاد، والثاني قيادي في الفريق الرئاسي للرئيس مرسي، مفادها أن تجربة أردوغان ستسقط، هكذا قال الأول، أما الثاني فقرر أنه لا يعتبر حزب أردوغان حزباً إسلامياً، وإنما الإسلاميون في تركيا هم الإخوان المسلمون.
وحين علم المرشد ود. الكتاتني وعدد من القيادات ذلك استنكروا التعقيب، وقرروا أن هذا رأيهما الخاص، وأنهما لا يعبران عن رأي الإخوان.
كثيراً ما أهمّ بمفاتحة المرشد في عدد من القضايا الحساسة والشائكة التي أخطأ فيها الإخوان، خصوصاً في الفترة التي أعقبت ثورة يناير مباشرة، إلا أنني سرعان ما أتراجع أمام رجل يبلغ من العمر 75 سنة، ويعاني من عدد من الأمراض الشديدة، بدءاً من الفم الذي جردوه من طاقم الأسنان، ونهاية بالبواسير التي تمنعه من الجلوس على المقعد داخل سيارة الترحيلات، أو قاعة المحكمة، فالرجل حضر حتى الآن حوالي 700 جلسة محكمة، وصدر بحقه ما يقارب المائتي عام سجناً، وحكم عليه بالإعدام، ومع ذلك فلا يشكو ولا يتأوّه، حالة فريدة في الصمود والصبر الجميل، أستحي أن أطرح عليه أي سؤال، أشكره على ابتسامته التي لا تفارق شفتيه، وحبات القرنفل التي يضعها في يدي كل جلسة.
يعيش الإخوان حالة صفاء وإخلاص وحب لله، ومسؤولية تجاه الوطن تستلزم الصمود، ولكن هل الإخلاص والصمود كافيان لبناء حضارة؟ بدون العلم والدراية بوسائل وآليات وعلاقات الحكم والسياسة التي قذف الإخوان أنفسهم فيها.
سألت الإخوان: ماذا تدرسون من مناهج داخل الأسر الإخوانية؟ أجابوني: ندرس الفقه والعقيدة والتفسير والدعوة و.. فقط.
سألتهم: هل تدرسون شيئاً عن السياسة أو القانون العام أو الاقتصاد أو تاريخ مصر الحديث أو المجتمع المصري؟ أجابني بالنفي.
أردفت: إذاً كيف كان تصوركم لحكم وإدارة واقع لا تدركون أبعاده وعمقه وتحدياته؟ تعددت الإجابات، والحيرة واحدة!
في اليوم التالي ابتدرني قيادي شاب بحماس: نحن ندرس الإسلام وهو نظام شامل وكامل ينظم كل مناحي الحياة ألا يكفي هذا؟
قلت: نعم الإسلام نظام شامل، ففيه الدعوة والفقه والتفسير، وفيه أيضاً السياسة والاقتصاد والاجتماع؛ لأنه شامل، إلا أنكم تدرسون جزءاً، وهو الدعوة وأخواتها، وتتركون جزءاً وهو السياسة ولوازمها، وهذا يعد إخلالاً بمبدأ الشمول الذي تحتج به!
ردّ قائلاً: طالما أنني ملتزم بالسلوك الدعوي سواء داخل أو خارج الحكم والسياسة فلا تثريب عليَّ، قلت: لا، وشرحت أنّ كثيراً من قواعد ومبادئ الدعوة عكس قواعد ومبادئ السياسة، ففي الدعوة أن الزمن جزء من العلاج وفقاً لمبدأ التدرج الذي يناسب عقل الإنسانية، أما في السياسة فإن مرور الزمن جزء من استفحال المشكلات وتفاقمها، إذ لا بد من اقتحامها وحلها بقرارات جريئة وسريعة، وإلا أطبقت عليك من كل جانب واستغلها خصومك للإيقاع بك، وفي الدعوة أن الأصل في التعامل افتراض حسن النية في الآخرين، (التمس لأخيك سبعين عذراً)، أما في السياسة فلا يمكن استبعاد سوء النية أبداً، فقد يبدو أحدهم أمامك بمظهر الناسك المتبتل في حين أنه يُعدّ العُدّة لخيانتك والانقلاب عليك، وفي الدعوة يمكن التصدّق بعرضك لمن تشاء، أما في السياسة فلا بد من إنفاذ القانون على مَن يعتدي على عرضك أو عرض أحد المواطنين، وإلا استُبيحت الأعراض، وانتُهكت، وفسد المجتمع كله، وفي الدعوة فإن الوسيلة الوحيدة هي الوعظ والإرشاد، ثم تقف عند ذلك فلا عليك إدراك البناء (ليس عليك هُداهم)، أما في السياسة فلا مجال للوعظ والإرشاد، وإنما استخدام القوة المشروعة لتطبيق نصوص الدساتير والقوانين وإحكام وقرارات القضاء؛ لأنك مطالب بتحقيق نتائج وفقاً لبرنامجك السياسي الذي أعلنت عنه، وانتخبك المواطنون لتحقيق حياة أفضل لهم، وعلى العموم إذا طبقت القواعد الدعوية على العمل السياسي تفشل السياسة وتضيع الدعوة، وإذا جمعت بينهما فقد جمعت بين أساليب ووسائل متناقضة، فيبدو أداؤك أمام الناس محلاً للاستغراب والدهشة، ومن الصعب، بل من المستحيل أن ينجح في ممارسة العمل السياسي مَن تكونت ملكاته وقدراته على أساسٍ دعويٍّ صرف، وعاش أغلب عمره داعيةً، فلا بدّ من التخصّص أو الفصل الوظيفيّ، بين وظيفة الداعية ووظيفة السياسيّ، وذلك في إطار المرجعية الإسلامية الشاملة لكليهما، بحدودها القيميّة والأخلاقيّة والحضاريّة التي تستظلّ بظلّها كلّ الوظائف والتخصّصات، والوسائل والأساليب داخل المجتمع.
يتفاعل الشباب بمثل هذه الحوارات الجادّة، البريئة من التحامل وإلقاء التهم، يرى أنه لا بد من اجتهادات وصياغات جديدة تناسب الأحداث المتلاحقة، وتتعاطى مع المستجدّات الإقليميّة والدوليّة، لا بد من صياغة رؤية. بعض القيادات لا يرى ضرورة ذلك.
يقولون في الأمثال: التاريخ يعيد نفسه، ويقولون أيضاً: التاريخ لا يعيد نفسه، وأيّاً كان القول الأصحّ فيهما، فإن التاريخ قد أعاد نفسه بالفعل، ففي خمسينيّات القرن الماضي قرر عبد الناصر إبادة الإخوان، ولكن عبد الناصر هلك وبقي الإخوان، بل عاد الإخوان أقوى مما كانوا، بفضل إخلاصهم لفكرتهم وصمودهم وثباتهم داخل السجون، عادوا ليبدؤوا مرحلة جديدة، ولكنّها قديمة، عادوا لممارسة العمل السياسي والقواعد والمفاهيم الدعويّة دون الإلمام والدراسة لواقع السياسة ودهاليزها وتعقيداتها.. وخياناتها.. عادوا ليمارسوا السياسة بحسن النيّة والوعظ والإرشاد، فتكررت وقائع الخمسينيات على مساحة أوسع.. مع خلفاء عبد الناصر.
مضى من وقت المباراة أو المعركة بين النظام والإخوان أربع سنوات، تشير الساعة إلى أن المباراة تلفظ أنفاسها الأخيرة.. هل ستنتهي بالنقاط؟ أم بالضربة القاضية؟ الله أعلم.
الجمهور آخذٌ في التحوّل من مدرّجات النظام إلى مدرّجات الإخوان؛ حيث لم يمدّ لهم النظام “اليد الحانية” التي وعد بها، ولكنه مدّ لهم يداً مسمومة، سرعان ما تمتلئ مدرجات الإخوان.
يبدو أن النظام حتى الآن على الأقلّ لم يرَ هذا التحوّل، على الرغم من كثرة عيونه وبصّاصيه، ربما لغروره بالقوة والسلطة، وربما لعناده وكبره وعجزه عن التخلّص من عاداته القديمة، استخدام القهر لإخضاع أصحاب الفكر، الذين لا يخضعون.
في مطلع عام 2012 أخبرني المسؤول السياسي الأول في الإخوان بأنّهم قد أجروا استطلاعاً للرأي لقياس شعبية الإخوان، فكانت النتيجة في انخفاض شعبيتهم بنسبة كبيرة؛ حيث تراوحت بين 12% و25%، ومع ذلك فبعد أيام قليلة دعا الرئيس مرسي لانتخابات نيابية على الرغم من علمه بنتيجة الاستطلاع، شهادة حق أقولها لمن يهمّه أو لا يهمّه الأمر.
في الجلسة الأخيرة لمحاكمتي في قضية فضّ اعتصام رابعة، مال عليّ أحد اللواءات وهمس في أذني: هو متى ستنتهي الحكاية دي يا أستاذ عصام؟ إحنا تعبنا أوي والبلد وقعت؟ أجبته بهدوء: لن أقول لك بالمصالحة أو تنازل النظام أو تنازل الإخوان، سأقول لك على حاجة مختلفة: يطبق القانون بحذافيره على هؤلاء الواقفين أمامك، من خلال قضاة مستقلين وعدول وبالضمانات المنصوص عليها، وتُطبق لوائح السجون بحذافيرها أيضاً، وفقط لا غير، في هذه الحالة، فإن الشعور بالعدل سيولد في النفس الرضا، ويكون من أثر ذلك استعداد النفوس الراضية لمناقشة وطرح كل الموضوعات، ومن ثم إبداع عشرات الحلول لأعتى المشكلات، كما حدث وتكرّر في التاريخ لعشرات الأمم والشعوب التي مرّت بأسوأ مما نحن فيه قديماً وحديثاً، أمّا استمرار الظلم والتلفيق والتزوير والمحاكمات الهزليّة العبثيّة والتعذيب في السجون، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الثبات والصمود، واستمرار بل استفحال المشكلات، ردّ عليّ اللواء قائلاً: أنت تقصد أن المحاكمات تكون عادية زي كل المحاكمات؟ ده الإخوان يخرجوا من السجون بكرة الصبح، والشعب هيجيبهم على الحكم تاني! قلت له بكل اقتناع: ولو..
خلاصة ما أراه وأشهد به: أن الحلول الجادة لا تنبت في أجواء مسمومة، وأن الأحرار المخلصين لا يخضعون أمام الضغوط، ولكن تأسرها الكلمة الطيبة.. كلمة حق وعدل، وأن أسلوب العصابات لن يزيد المشاكل إلا تعقيداً.
هذه شهادتي.. عصام سلطان
أغسطس 2017