لقد زرع ديننا الإسلامي الحنيف في أعماق كل مسلم مفهوم القناعة، حيث تجعله يتمتع بالرضا بالميسور، واليأس ممَّا في أيدي الناس، وذلك لئلا يتعلَّق قلبه بالمادِّيات فتصبح هدفه، أو يصبح الإكثار منها غايته وطموحه، والإسلام في ذات الوقت لا يدعو إلى الإعراض عن طيِّبات الحياة، وملذات الدنيا وخيراتها، ولكنه يدعو إلى العفاف والزهد، وأن يتمتع العبد بالقناعة والرضا بعطاء الله، بحيث يرضى بالقليل، ويزهد في ما عند الناس.
والآيات القرآنية الكريمة التي تدور في هذا المعنى العظيم – معنى القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى – كثيرة ومتعددة، منها على سبيل المثال قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ {32}﴾ (الزخرف).
وحول هذا المعنى تدور هذه القصة الواقعية عن التاجر عبدالجليل بن ياسين الطبطبائي، رحمه الله، والتي وردت في كتاب “محسنون من بلدي إصدار بيت الزكاة” (مستشار التحرير د. عبدالمحسن الجارالله الخرافي ج1 ص 59 – 63)، وفيها:
أن السيد عبدالجليل الطبطبائي لم يكن فقيهاً وأدبياً فحسب، بل لم يمنعه ما ورثه عن آبائه من مزارع النخيل من أن يأكل من عمل يده فاشتغل بالتجارة، وكان نشطاً بتجارة اللؤلؤ، وله مركب تجاري أسماه “السعد” وقد بسط الله تعالى له الرزق في تجارته.
وضرب السيد عبدالجليل مثلاً حياً للتاجر الأمين وكان في تجارته نزيهاً يتحرى الحلال، ويستنكر مدنسات البيع والشراء كالربا وغيره، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك فقد كان يشمئز من الربح الفاحش.
ويروي أحد أصدقائه أن السيد عبدالجليل الطبطبائي بُشر مرة وهو يتوضأ للصلاة بأن بضاعته قد كسبت الضعف فاستعبر باكياً فقيل له: لماذا تبكي إن هذا مما يسُّرك ويفرحك فقال: إني أعرف ذلك، إلا أنه ينذر بما لا يحمد عقباه، فإن الربح إذا بلغ هذا الحد وصار على هذا النمط يجب ألا يفرح به صاحبه، فقد يأتي على ما جمعه المرء، يريد أن يشير إلى أنه ما بعد الكمال إلا النقصان وقد صدق حسه وظنه، فقد ذهب كثير من ماله لكن الله عوضه عنه بحب الناس وإجلالهم له لعلمه وتقاه وجوده وسمو نفسه.
فسبحان الله على هذه القناعة العجيبة التي وهبها الله تعالى المرحوم السيد عبدالجليل بن ياسين الطبطبائي، والتي قل ما نجدها عند كثير من الناس، فالطبيعي أن يفرح التاجر إذا ربحت تجارته، بل ويزداد فرحاً عندما تصل مكاسبه إلى الضعف كما حدث مع السيد عبدالجليل، وقد ينسب ذلك إلى ذكائه وفطنته وقدرته على معرفة أحوال السوق، ومهارته في المغامرة أو موهبته في البيع والشراء، فلا يلتفت إلى عواقب الزيادة المفرطة في المكسب فقد تكون اختباراً أو تمحيصاً.
والحق يقال؛ أن الكثير من آبائنا من أبناء الكويت الكرام قد تمتعوا بالقناعة والرضا، وتواترت عنهم القصص العجيبة في هذا الشأن، والتي تثبت عدم تعلقهم بالدنيا وملذاتها، ولكن الرغبة فيما عند الله، والرضا بالقليل من المكاسب التي تقيم لهم الحياة وتعفهم عن السؤال، ولذلك غلب عليهم الكرم والجود، والإنفاق في سبيل الله، والزهد في الدنيا، فعاشوا حياة طاهرة نقية، متحررة من قيود المظاهر والشكليِّات التّي لا تساوي شيئاً عند أغنياء القلوب إذا ما قيِست بما عند الله، فما عند الله خيرٌ وأبقى.
WWW.ajkharafi.com