انطلقت في الـ 15 من أغسطس 1929، شرارة ثورة البراق التي رسّخت في الوجدان العربي؛ أنه لن يمر أي اعتداء على المسجد الأقصى المبارك دون أن يدفع المعتدي الثمن.
والبراق هو جزء من الحائط الغربي للأقصى، وقد كان ادعاء اليهود بملكيته سببًا في التوتر الذي نجمت عنه اضطرابات عنيفة في آب من عام 1929 بين العرب واليهود في القدس، وفي أنحاء عديدة من فلسطين.
وورد في الأثر أن حائط البراق؛ المكان الذي ركن إليه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) البراق المجنح الذي حمله من مرقده في حادثة “الإسراء والمعراج” إلى السماء مرورًا ببيت المقدس
ويدعى الاحتلال أن حائط البراق (يُعرف لديهم بـ “المبكى”)، آخر ما تبقى من “الهيكل المزعوم”، منذ أن دمره الرومان عام 70 ميلادية.
وانتزع الاحتلال حائط البراق بعد محاولات متكررة، من الباب العالي (السلطة العثمانية آنذاك)، بناءً على فَرَمانٍ يُبيح لهم الصلاة عنده وإقامة شعائرهم أمامه، شريطة عدم الإخلال بالوضع القائم واستفزاز مشاعر غيرهم من الطوائف التي تسكن المكان.
وفي تاريخ 15 أغسطس، نظمت حركة “بيتار” (الصهيونية المتطرفة) مسيرة احتشدت فيها أعداد كبيرة من اليهود في القدس، واتجهوا نحو حائط البراق، وهم يصيحون “الحائط لنا”، وينشدون نشيد الحركة الصهيونية.
وتداعى الفلسطينيون للدفاع عن الأقصى في اليوم التالي، الذي وافق ذكرى الاحتفال بذكرى المولد النبوي، وخرجوا بمظاهرة حاشدة من المسجد باتجاه الحائط، واندلعت اشتباكات عنيفة امتدت بعدها إلى مدن وقرى فلسطين.
وأسفرت المواجهات عن مقتل 133 يهوديًا وجرح أكثر من 300 آخرين، بينما استشهد 116 مواطنًا فلسطينيًا وجرح أكثر من 200.
واعتقلت سلطات الانتداب البريطاني 900 فلسطيني، وأصدرت أحكامًا بالإعدام على 27 منهم، ثم خففت الأحكام عن 24، ونفذ حكم الإعدام في 17 يونيو 1930 بسجن مدينة عكا المعروف باسم “القلعة” في ثلاثة فلسطينيين، هم؛ فؤاد حسن حجازي، محمد خليل جمجوم، وعطا أحمد الزير، الذين خلدوا في الذاكرة الفلسطينية.
حافظت سلطات الانتداب البريطاني، التي ورثت إدارة فلسطين بعد الثورة العربية الكبرى والحرب العالمية الأولى على الحالة القائمة في الأماكن المقدسة استنادًا إلى المادة (12) من صك الانتداب.
كانت المحاولات اليهودية الأولى في السيطرة على الأماكن المقدسة؛ يوم 24 سبتمبر 1928، حين جلبوا تجاوزًا للعرف معدات احتفالهم بـ “يوم الغفران”، ووضعوا ستارًا يفصل الرجال عن النساء ونفخوا في الأبواق، الأمر الذي أثار حفيظة المسلمين وهواجسهم ومخاوفهم واعتبروا ذلك مجرد مقدمة لاستملاك اليهود للمسجد الأقصى.
وعلى إثر تلك الحادثة أسس الفلسطينيون “جمعية حراس المسجد الأقصى” وقرروا الدفاع عن مكانهم المقدس، وكان ذلك بداية لاندلاع هبة البراق، التي شهدت أيام الأسبوع الأخير من أغسطس 1929 وقائعها الدامية.
تفاقم الوضع في 17 أغسطس، حين تحول شجار نشب بين شاب يهودي وآخر فلسطيني إلى عراك أسفر عن إصابة 11 من الطرفين بجروح مختلفة، وحين وصلت قوة البوليس إلى المكان هاجمتها جمهرة اليهود فأصيب فلسطيني وأحد أفراد قوة البوليس بجروح خطيرة اعتدى بعدها اليهود على بيوت العرب في الأحياء المجاورة، وجرحوا بعض سكانها.
وفاة الشاب اليهودي الذي أصيب في شجار السابع عشر من الشهر أثارت اليهود فحولوا جنازته يوم 20 أغسطس إلى تظاهرة سياسية صاخبة ضد الحكومة وضد الفلسطينيين على حد سواء، ما دفع الحكومة إلى استقدام عدد من المصفحات المرابطة في شرقي الأردن ووضعتها في مدينة الرملة، على الطريق بين تل أبيب والقدس تحسباً لتفاقم الأوضاع.
ويشكل حائط البراق الجزء الجنوبي من السور الغربي للأقصى (بطول حوالي 47 مترًا وارتفاع حوالي 17 مترًا)، ولم يتخذه اليهود مكانًا للعبادة في أي وقت من الأوقات إلا بعد صدور وعد بلفور العام 1917.
وجاء في الموسوعة اليهودية الصادرة عام 1917، أن الحائط الغربي أصبح جزءًا من التقاليد الدينية اليهودية حوالي عام 1520 للميلاد نتيجة للهجرة اليهودية من إسبانيا وبعد الفتح العثماني عام 1517.
شكلت أحداث ثورة البراق تحولًا في العلاقات العربية البريطانية في فلسطين، ففي الوقت الذي اتجهت فيه احتجاجات سكان فلسطين العرب نحو الوجود اليهودي ونزعته التوسعية بالتحديد متفادية الاصطدام بالقوات البريطانية، سقط هؤلاء السكان ضحايا برصاص البوليس البريطاني الذي كان يشكل حماية منيعة لليهود.
كما شكلت ثورة البراق نقطة تحول في سلوك حكومة الانتداب إزاء العرب، وبات العداء صريحًا يتجلى في ممارسات القمع الموجهة ضد العرب تحديدًا.
وأعاد تقرير لجنة “شو”؛ (أرسلتها وشكلتها الحكومة البريطانية للتحقيق في أسباب حوادث 1929 بفلسطين)، وقوع الحوادث إلى شعور الفلسطينيين بـ “خيبة الأمل في تحقيق أمانيهم السياسية والوطنية، وخوفهم على مستقبلهم الاقتصادي”.
وأوصت اللجنة الحكومة البريطانية بأخذ هذه العوامل في الاعتبار حين تنفيذ سياستها القائمة على تدفق الهجرة الصهيونية وحيازة اليهود للأراضي العربية.
وأوصت “شو” بإرسال لجنة أخرى لتحديد الحقوق في حائط البراق ووافقت جمعية عصبة الأمم في 14 يناير 1930 على إرسال اللجنة. وقد خلصت إلى عدة استنتاجات أهمها “أن ملكية الحائط الغربي تعود للمسلمين وحدهم ولهم الحق وحدهم فيه لأنه يؤلف جزءًا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف، وتعود لهم أيضًا ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لأن ذلك الرصيف وقف”.