إذا عدنا بالمجتمع إلى حالته الأولية، نستطيع القول: بأن المجتمع هو مجموعة من الأفراد، تجمعهم روابط معينة. والفرد والمجتمع كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر، وهما كجناحين تعلو وتهبط بهما الحضارات. فالعناية بسلوك الفرد وثقافة المجتمع يرسم مسار الحضارة وينبيك عن عمرها. وفي هذا المقال سنتحدث عن أهم عوامل ثقافة المجتمع، ألا وهو شكبة العلاقات داخل المجتمع.
يشاع أن الغريزة هي سبب نشوء المجتمع، ويرى مالك بن نبي -رحمه الله-: “أن هذه الغريزة وسيلة لإنشاء المجتمع، وليست سبباً في إنشائه؛ إذ يضم المجتمع ما هو أكثر من مجرد مجموعة من الأفراد الذين يؤلفون صورته، يضم عدداً من الثوابت التي يدين لها بدوامه وبتحديد شخصيته في صورة مستقلة تقريباً عن أفراده”.
ويرى أيضاً -رحمه الله- “أن هذه الثوابت تتجسد في نهاية الأمر في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم، وتوجه ألوان نشاطهم المختلفة في اتجاه وظيفة عامة، هي رسالة المجتمع الخاصة”.
ولاستيعاب أهمية العلاقات الاجتماعية، وتقريب الصورة إلى الأذهان، دعونا نضرب بعض الأمثلة؛ ففي الكيمياء قد تتشابه مواد معينة في التركيب الكيميائي دون أن تتشابه في خصائصها، ويرجع ذلك إلى تنظيم هذه المادة الداخلي، وكيفية ترابط جزيئاتها مع بعضها البعض؛ فالفحم والألماس يتكونان من نفس العنصر الكيميائي! واختلاف شكل الروابط داخلهما أدى إلى اختلاف الخصائص لكل منهما بشكل كبير.
كما أعتقد أننا ندرك –جميعاً- أهمية التنسيق والترابط؛ لتحقيق إنجاز ما، هبْ أنك تريد بناء بيت، لا بد أن تحتاج إلى المصمم، والمعماري، والحداد، والنجار، والكهربائي وغيرهم، ولك أن تتخيل المدة التي سيستغرقها بناء البيت إذا لم يكن هناك تنسيق وترابط بين الجميع، كلٌ حسب مسؤوليته في هذا البناء، لا بد من ربط المصمم بالمعماري، والمعماري بالحداد والنجار وهكذا، وبدون هذه الروابط والعلاقات لن يتم البناء.
هذه الروابط تتمثل في المجتمع بشبكة العلاقات الاجتماعية، التي تحدث عنها مالك بن نبي، فتَكَوُّن شبكة العلاقات الاجتماعية دليل أهلية المجتمع للنهوض ولبناء حضارة ولإحداث أثر في التاريخ، فشبكة العلاقات شرط لوجود النشاط المشترك داخل المجتمع.
وفي المدرسة الناجحة نرى العلاقة المميزة بين المدير والمعلمين، وبين المعلمين والطلاب، وبين المدرسة وأولياء الأمور، فكلما كانت العلاقات بين هذه المكونات قوية متماسكة وسليمة رأينا المخرجات أكثر تميزاً.
ولذلك وحتى نفهم التغيّر الحاصل في مجتمع معين، علينا أن نبحث في العلاقات بين مكوناته، لا أن نلتفت إلى المكونات ذاتها، فالمجتمع كما يرى مالك بن نبي “يمرض عندما يعجز عن النشاط المشترك، وينتهي إذا تفككت شبكة العلاقات!”.
ولعل مرض المجتمع يرجع إلى “تضخم الأنا”، وتنامي “النزعة الفردية” داخله؛ حيث إن الفرد يبحث عن مصالحه الشخصية، ومنافعه الذاتية، دون الالتفات إلى مصلحة المجتمع، فيغيب التعاون لبناء المجتمع، وتدور النقاشات بين الأفراد، لا للوصول إلى حلول، بل لجلب الأدلة التي تدعم وجهة نظر الفرد.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، عندما بدأ فور وصوله إلى المدينة المنورة بتوثيق العلاقات بين المسلمين من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم أتبع ذلك بكتابة وثيقة المدينة المنورة، التي رسمت العلاقات بين أبناء مجتمع المدينة بمختلف أطيافهم، فشبكة العلاقات هي سر تطور المجتمع ونهوضه.
ويرى مالك بن نبي “أن كل علاقة اجتماعية في جوهرها عبارة عن خلق؛ فعلاقة الكبير بالصغير -في جوهرها- عطفٌ، وعلاقة الصغير بالكبير احترام، وعلاقة الأبناء بالآباء بِرٌ. وهكذا تترجم الأخلاق من إيثار وصدق، وأمانة، وتواضع، ورفق، وحسن ظن، وعفة، وغض بصر، إلى علاقات تربط بين أبناء المجتمع برباط وثيق يزيد من نشاط أفراد المجتمع المشترك على طريق النهضة والارتقاء.
من هنا علينا أن ندرك أن من ينادي بحرية الأخلاق بدعوى تقدم المجتمع، إنما يسعى لتدمير المجتمع وتفكيكه! ومن ينادي بتعزيز النزعة الفردية على حساب النشاط المشترك أيضاً، يسعى لتفكيك المجتمع وتمزيق علاقاته.
المجتمع القوي القادر على إحداث التغيير هو مجتمعٌ يمتلك شبكة علاقات قوية وصحيحة، شبكة علاقات تربط أبناء الأسرة الواحدة مع بعضهم البعض ومع عشيرتهم وقبيلتهم، وتربط الأسر في الحي الواحد والقبائل في المجتمع الواحد، وتربط بين مؤسسات المجتمع التربوية والخيرية والنقابية والسياسية، وتربط بين الأمة والسلطة.
ختاماً، ينبغي على كل مسؤول أراد أن يرتقي بالمؤسسة التي يديرها -ابتداءً من الأسرة إلى أعلى سلطة في المجتمع- أن يسعى إلى تعزيز وتقوية شبكة العلاقات داخل مؤسسته؛ لأن ذلك سيثمر –حتماً- تعاوناً وتكاتفاً وتماسكاً يغذي نهضة المؤسسة وتطورها وتفوقها على مثيلاتها.
——
* المصدر: بصائر.