المعذبون في الأرض.. هي قصة تختلف عن الأحد عشر قصة التي كتبها الأديب العربي طه حسين في وصف معاناة الناس المُعدمين والمرضى والفقراء في ضواحي وبيوت الصفيح في مصر، وعكس فيها آلام الحياة القاسية في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين. وهي مروية لا تُقارب ما أبدعه الطبيب النفساني الفرنسي فرانز فانون من مرويات ونظريات مرحلة ما بعد الكولونيالية، والتي ترجم فيها سيكولوجيا الضحية والجاني بمختلف توجهاتهم السياسية وتصنيفاتهم الاجتماعية. وإنما هي قصة السوريين الذين هاموا على وجوههم في الأرض، وتشردوا في أركانها الأربعة.
قصة بل آلاف القصص والحكايات التي روتها عساكر الحدود، ونازعو الألغام، وخفر السواحل والصحفيين في القارة العجوز، وفي مناطقها الشرقية والجنوبية. وأفصحت عن آلامها قوارب الموت في أعماق مياه المتوسط والأطلسي، ومافيات تهريب البشر بين قارتي أفريقيا وأوروبا. ولعل مقاطعة يوكون الكندية في أطراف المحيط المتجمد الشمالي، كانت آخر محطة في أقصى الأرض، وصلتها عائلة سورية مؤلفة من أحد عشر شخصًا في مطلع شهر فبراير 2016. حيث استقبلهم أهالي المقاطعة، التي لا يتجاوز عدد سكانها الأصليين 34 ألف نسمة، نتيجة لبُعدها وقساوة تضاريسها، وشدة برودتها في معظم أيام السنة. وقد صرح عضو برلمان يوكون النائب لاري باكتل، بالقول: كنا سعداء بوصول هذه العائلة، وسنحرص على توفير كل ما تحتاجه من ملبس وطعام ومأوى.
هذه قصة السوريين المعذبين، هي قصة ثائرين أحرار تخلى عنهم العالم بأسره، وتعامل مع قضيتهم بطرق عبثية ومخيبة للآمال، وألبسوا ثورتهم ثيابًا وألوانًا لا حصر لها، فمنهم من اعتبرها أكبر كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية، ومنهم من رآها مصدر تهديد للأمن ومرتع للإرهاب العالمي، ومنهم من عدَّها ثورة شعبية، غير أنها قد تهدد نظام حكمه، وتُثور شعبه. في حين تعاملت بعض الشعوب معها بشفقة وتردد. وهكذا، فكل نظام وكل شعب خذلها بوسائل سياسية وعسكرية ومالية وإعلامية. وبأقل تقدير، أغلقت حدود الدول وعلى رأسها العربية في وجه أولئك الهاربين من بطش النظام القاتل ومليشياته الطائفية، ومن عنف “داعش” و”القاعدة” وعصابات الأكراد الانفصالية، التي لا رادع لها.
لم يتفهم العالم معاناة السوريين، ولم يتعامل مع ثورتهم كثورة شعب خرج لاسترداد كرامته المسلوبة عقودًا طويلة، ولم يلب نداءه في تحقيق المشاركة السياسية والمساواة الاجتماعية العادلة. فالسوريون خرجوا يطالبون بوقف المقاصل والاعتقالات العشوائية والسجون التعسفية، وكبح جماح العصابة الأسدية الطاغية، وإنهاء مظاهر التعسف الأخرى التي حولت سورية إلى سجن كبير، بل ولمزرعة تتبع عائلة الأسد وحلفائها في النظام من النخب الحزبية والثقافية والرأسمالية، وكل من له ارتباط مصلحي بالعائلة من قريب أو بعيد.
يقف السوريون في عام ثورتهم السابع، ليواجهوا مليشيات محلية وأخرى عابرة للحدود، تقودها الفاشية البوتينية الروسية وإيران، ويدعمها صمت عربي، وتردد غربي لا سابق له. ونتيجة هذا كله، يعاني السوريون وحدهم، يشكون أزمة هوية خطيرة، وأزمة وطن منتهك وممزق، وهم موزعون في مخيمات الداخل والخارج في سورية، وفي الأحياء المحاصرة في المدن، وفي الأرياف المبعثرة أو لاجئون لدى العشائر وسط البوادي السورية. وليس هذا فحسب، بل يلاحق ويقتل من تبقى من المثقفين والفنانين والأكاديميين والأطباء والمسعفين ورجال الدفاع المدني، وتصفى جموع المعتقلين بالجملة. ناهيك عن تدمير البنى الخدمية من المشافي والمساجد والمدارس والجامعات، والأحياء السكنية والأسواق الشعبية بشكل شبه يومي.
فاقت الثورة السورية بتضحياتها وتأثيراتها تلك التي صفق لها العالم بأسره عندما قامت في إيران “ثورة الخميني” على الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، عندما رفعت لها شعوب العالم الحر القبعات تقديرًا، وخرجت بمظاهرات، وأصدرت البيانات مناصرة لها. ومثلها احتشدت الشعوب في الساحات، يوم نهضت ثورات أحرار كوبا والأرجنتين والجزائر وفيتنام وجنوب إفريقيا والهند ضد الاستعمار أو الاستبداد، فأعظمها لم تبلغ ما بلغته ثورة السوريين في أعوام ثورتهم السبع.
ما يحدث في سورية اليوم، هي انتفاضة قام بها أبناء سورية الوطنيين عرب وغير عرب، مسلمون وغير مسلمين، رفعوا شعارات سلمية وبريئة في مظاهراتهم واعتصاماتهم “حرية.. كرامة.. عدالة”. ولكن حرف مسارها الموتورون وأصحاب المشاريع الضيقة، لتغدو أزمة عالمية وخطر محدقًا. وعلى الرغم مما بلغته الثورة من اضمحلال وتراجع، لكنها كشفت تواطؤ الدول الغربية والشرقية على إرادة الشعوب الحرة، وأظهرت زيف دعاة الحريات وحقوق الإنسان، وعَرَّت عجز مؤسسات الأمم المتحدة، وهشاشة منظومة الدول العربية، وأظهرت التخاذل العربي والإسلامي، الذي بدت هزالته بعد مجازر الأسد الكيميائي، برعاية روسية، في إدلب وغوطة دمشق، والتي أثبتتها الأدلة الأممية جميعها.
ما يريده السوريون اليوم في عام ثورتهم السابع ليس شفقة من أحد، ولا نظريات سياسية من طرف، إنما هم بحاجة إلى وقفة تفيهم تضحياتهم، وتَحول دون مساعي الدول صاحب القرار في الشأن السوري، لإعادة تأهيل النظام بعد خسائر السوريين البشرية والمادية، والتي قاربت المليون قتيل ومفقود، وعشرات آلاف المعتقلين والمعاقين، وعدة ملايين من المشردين في أصقاع الأرض.
ولعل التعبير عن تلك الحالة، يتمثل بنشاطات إعلامية وثقافية وقانونية شعبية ونقابية منظمة، واعتصامات أمام ممثليات الأمم المتحدة والدول المعنية بالقضية السورية. وكذلك العمل على إصدار تقارير إعلامية وحقوقية توثق جميع الانتهاكات والجرائم. بالإضافة لتحرك أقلام باحثة يمكنها التعبير عن حجم الكارثة، وتزيد من نسب المقاطعة العربية والإسلامية والدولية الرسمية وغير الرسمية لنظام الأسد وتجريمه. وبدورها تُعري محاولات الاستيطان الإيرانية في مناطق دمشق وحمص والساحل السوري وحلب؛ حيث يتم تهجير سكانها، من خلال سياسة الهُدن وعبر الباصات الخضراء، بإشراف وكالات الهلال الأحمر الدولية وروسيا، حيث يهجر المواطنين الأصليين من بيوتهم، وتستقر بدلاً عنهم عوائل عراقية وإيرانية وأفغانية موالية للنظام. وتسلك إيران مسلكاً آخر، عبر شراء البيوت والمتاجر التاريخية بأسعار فلكية، وخاصة في حواري دمشق وحلب، بهدف تقوية ركائزها الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية على الأرض، ورفع رصيدها البشري والعسكري، وبالتالي تحويل سورية لمقاطعة إيرانية، كما تحولت أجزاء واسعة من العراق ولبنان واليمن إلى مناطق نفوذ لها، لكن هذه المرة ترسم إيران مصالحها بالمال والدم السوري.
(*) مواليد معرة النعمان بسورية 1989، ويحمل شهادة الماجستير في التاريخ السوري المعاصر، ويعمل باحثاً في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، ولديه عدة مقالات وبحوث منشورة في مجلة “الدوحة” ومجلة “المأثورات الشعبية” بوزارة الثقافة في قطر، وفي مركز إدراك للدراسات والاستشارات في إسطنبول، ومجلة “الفكرية” التونسية، ومجلة “فسحة” الفلسطينية في مناطق عرب 48، وتلك الكتابات تناولت قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ودستورية وأمنية في التاريخ العربي والسوري المعاصر.