تعتمد فكرة “مهارة حل المشكلات” الإحساس بالمشكلة وتحديدها، وجمع بياناتها وتبويبها، ومعرفة الأشخاص الذين لهم علاقة بها، ثم وضع الحلول المتعددة، والبدء بالأسهل، ثم التقييم، مع الدقة والموضوعية، وتجزئة الحل، والاقتناع بإمكانية حل أي مشكلة.
ومن أسلوب حل المشكلات، استشعار الشخص أنه جزء من المشكلة حتى يتحمل جزءًا من الحل، ومن هنا تبدأ قصة الطالب “فواز”.
أبي وأمي شبه منفصلين وهما في بيت واحد، الشجار ديدنهما، يدخل أبي البيت بعد عمله مجهداً، وأمي مشغولة بإخوتي وإعداد الطعام ونظافة البيت، فليس الوضع مهيأ، ينزعج جداً فيرفع الصوت، فتغضب أمي، ثم يبدأ الصخب والسباب. نحن في البيت عددنا كبير، أنا في الجامعة، وأختي في الثانوية، ولي إخوة في المتوسط والابتدائي، وجميعنا نشاهد ذلك، فينقلب ألماً في نفوسنا وبكاء في عيوننا، وتطور الأمر حتى طلق أبي أمي مرتين ولم يبق سوى الأخيرة، وأصبح أبي يتناول حبوب الاكتئاب، ولا يحب الجلوس في البيت، وأمي معظم الوقت متضايقة ومتوترة.
يستكمل فواز كلامه رابطاً بما درس..
هنا بدأت أمارس التفكير الناقد، والتفكير الإبداعي، الذي درسناه ضمن مقرر “مهارات التفكير”، وأحسست أني كنت مهملاً نفسي وحياتي، وبلغت بي السلبية إلى عدم وجود أي أثر أو مشاركة لي في البيت، فقط أدرس وآكل وأشرب وأنام، وقد ألعب مع إخواني، ولي طلعات مع أصدقائي، وأختي مثلي كذلك.. كلانا نعزف نغم السلبية في بيتنا.
ولما مررت على “إستراتيجيات” حل المشكلات، وطبقت ومارست، عرفت كم أنا مقصر مع نفسي وأبي وأمي، كنت أتصور أن المهمات والمسؤوليات على أبي وأمي فقط، أما نحن فلا، وقد حركني تجاههما أمران قالهما الدكتور؛ إذا أحسست بمشكلة حولك فلن تحلها حتى تحس بأنك جزء من المشكلة والحل، وأنه لا شيء مستحيل، هنا فكرت.. لم أنقد والدي ووالدتي ولم أنقد نفسي؟! أين دوري؟!
فكرت بأسباب المشكلة، فوجدت من أبرزها أن هناك ضغطاً جسدياً ونفسياً على الوالدين؛ فالأب يعمل من الصباح حتى قبيل العصر؛ ثم يأتي مجهداً ليلبي متطلبات البيت، ومتابعتنا تعليمياً وتربوياً، إضافة لمهام الأسرة والأقارب.. إلخ، ولاحظت أن أبي لديه ١٤ مهمة، وأمي لديها مثلها في البيت، وأنا وأختي لا نشارك إطلاقاً، فوضعت خطة لتحمل أربع مهام من مهام والدي، وحددتها: المشتريات، ومتابعة دروس أخي الصغير، والقيام “بمشاوير” الوالدة، وإدارة جلسة ترويحية للأسرة في بعض المغربيات، فيها سوالف وفوائد وطرائف.
وأقنعت أختي بمساعدة أمي بأربع مهام: الإشراف على سفرة الطعام تقديماً وتنظيفاً، والمشاركة في تنظيف البيت، وتشرف على نظافة أختي الوسطى، وتدرس أختي الصغيرة.
وبقينا ننفذ ذلك لمدة شهر، حتى لاحظت تغيراً واضحاً في نفسية الوالد، وهدأت أمي أكثر، ونحن بدأنا نحس بدورنا في البيت، وغاب ٦٠% من المشكلة.
بعد هذا الإنجاز اقترحنا على والدينا أن يأخذا “إجازة من الأسرة” ويذهبا بمفردهما إلى أي مكان لمدة ثلاثة أيام وينسيا هموم البيت والأولاد ليستجما ويرتاحا، ثم يعودا أكثر همة ونشاطاً، وبطبيعة الحال.. رفضا مباشرة الاقتراح، خوفاً على العيال، وربما “حياء”، ولكنهما في الأخير اقتنعا، وسافرا ظهر الأربعاء، وعادا مساء السبت.
قال فواز: رجع والداي كعروسين جدد، ووجه أمي ينضح بالبشر والارتواء كأنها عروسة اللحظة، أما أبي فلقد كان سعيداً مطمئناً، غاب حزنه وترك الحبوب النفسية، وعند دخوله ضمني وقبلني ثم بكى وقال: يا حبيبي يا فواز، كان حقاً علي أن أزوجك، فإذا بك أنت من يزوجني، كان لزاماً علي أن أبني سعادة بيتنا، فإذا بك أنت وأختك من يمد قلبي وقلب أمك بالحب والحنان بعدما كاد أن ينكسر الزجاج، وينثلم الفؤاد، يا بني علمتني أنت أن الحياة نحن من يصنعها في دواخلنا، علمتني بذكائك ولباقتك أن المشاركة للكل راحة للكل، وأن المركزية تقتل سعادة المرء، فهو متعب دائماً والناس معه متعبون، والآن شاركتم وبادرتم وريحتم.
وقال فواز في ختام قصته لأستاذه وزملائه: يا دكتور، لأول مرة أدرس العلم تطبيقاً، وقد غابت المشكلة كلها تقريباً.
روى د. عبدالعزيز الأحمد هذه القصة الواقعية لطالبه في مقال بعنوان “فواز.. طالبي الإيجابي”، وقال: وهنا أرغمني “فواز” أن أعطيه الدرجة كاملة.
والآن.. تصوروا معي.. الأب لديه ١٤ مهمة، والأم لديها ١٤ مهمة، كما يراهما فواز، ونحن نعلم كآباء أن الرقم قليل جداً بحقهما، ومع ذلك فالأبناء لا يشعرون بهما، ويطالبون بكل شيء، ولا يعجبهم الأكل، مع غضب وصخب، ويمدون أرجلهم، ويأتون بدرجات متوسطة أو ضعيفة، وينشغلون بالأجهزة الذكية وهو بلا ذكاء اجتماعي، فهلا انتبه الأبناء لذلك مبكراً، قبل أن يفوت الفوت، وقبل أن يندموا على ما فات، ويشاركوا بتحمل المسؤولية، ويقدروا أدوار الآباء، فيبروهم.
والبر ليس أن يقبل الابن رأس والديه دون عمل أو مبادرة، بل البر بالنظر إلى عيونهما، ومعرفة رغبتهما، والمسارعة لتحقيق طلبهما قبل أن يطلباه.
اللهم ارض عنا وعن والدينا، واغفر لهما وارحمهما، وأعنا على برهما.