بعد فشل قمة طهران الثلاثية في توصل الدول الضامنة لاتفاق محدد بشأن إدلب يجنبها العملية العسكرية الواسعة التي يهدد بها النظام وتدعمها روسيا، وبالتوازي مع الجهد الدبلوماسي الذي تبذله أنقرة مع روسيا من جهة ومع أطراف غربية من جهة أخرى.. كان الخبر الأبرز للساعات والأيام الماضية هو التعزيزات العسكرية التركية على الحدود وداخل محافظة إدلب.
خبر كهذا، مقروناً بتصريح الرئيس التركي بعيد القمة الثلاثية بأن بلاده “لن تكون مشاركة ومتفرجة في حال استهدف عشرات الآلاف في إدلب”.. أدى إلى تفسيرات متعددة ومتضاربة في أحيان كثيرة حول دلالات هذه التعزيزات وأهدافها ومآلاتها، في ظل حساسية الموقف في المحافظة والتخوفات من عملية عسكرية شاملة ستكون لها تداعياتها الكارثية من عدة زوايا.
قبل التطرق للتعزيزات التركية، أظن أنه من المفيد الإشارة إلى أن هناك مبالغات في تقييم الإمكانات التركية فيما يتعلق بإدلب خاصة وبالقضية السورية عموماً.
تتجاهل تلك التقييمات أربع حقائق رئيسة:
الأولى: أن تركيا هي الأضعف في ثلاثي أستانا، ويمكن اعتبارها دولة في مقابل اثنتين، في إطار يجمع الدول صاحبة الرؤى المختلفة حول سورية، ولذلك مثلاً بدت غير قادرة على تثبيت الدعوة لوقف إطلاق النار في إدلب في البيان الختامي للقمة.
الثانية: حاجة تركيا لروسيا سياسياً وعسكرياً وميدانياً، لدرجة لا يمكنها معها خسارة العلاقات الجيدة معها مؤخراً. وليس المقصود هنا صفقة إس 400 ولا صفقات الطاقة النووية أو الغاز الطبيعي – على أهميتها – وإنما الحديث عن الغطاء الروسي الضروري للتواجد التركي على الأراضي السورية في منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” على وجه الخصوص، الآن ومستقبلاً.
الثالثة: ازدياد أهمية التنسيق مع موسكو في ظل الأزمة الأخيرة مع واشنطن، إذ لا تملك أنقرة رفاهية الخلاف والتوتر مع القوتين الأبرز في سورية وعلى الساحة الدولية.
الرابعة: الفجوة الكبيرة في الإمكانات العسكرية بين تركيا وروسيا بما لا يسمح بأي هامش للرغبة أو القدرة على المواجهة العسكرية بينهما.
ملخص ما سبق ونتيجته أن تركيا غير راغبة في المواجهة مع روسيا ولا تقدر عليها، وبالتالي فالخيارات التركية فيما يتعلق بإدلب محصورة بالسيناريوهات التي لا تؤدي إلى ذلك، رغم أن ضمان ذلك بشكل حاسم قد لا يكون ممكناً بسبب تعقيدات الأوضاع الميدانية وكثرة الفواعل على الأرض.
3 سياقات
حسناً، إذا لم تكن أنقرة راغبة في مواجهة عسكرية مع موسكو، وبالتبعية مع النظام السوري، فلماذا كانت هذه الحشود العسكرية الأخيرة؟ خصوصاً أنها تضمنت لأول مرة ما يبدو أنها أسلحة هجومية وفق التقارير؟
أعتقد أن هناك ثلاثة سياقات تخدمها هذه التعزيزات، قد تكون متلازمة أو منفصلة، بمعنى أن الهدف من هذه التعزيزات قد يكون واحداً أو أكثر من هذه السياقات، وهي:
أولا: مساهمة في معنى “الردع” لمنع إطلاق العملية العسكرية، عبر الإيحاء بموقف تركي مغاير من جهة وتعزيز المخاوف من أي ضرر قد يقع على الجنود ونقاط المراقبة والقوات التركية الموجودة في المحافظة بما قد يستجلب رداً من أنقرة قد يدحرج الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه. وهذا المعنى (الردع) متناغم مع الجهد الرئيس الذي تبذله أنقرة التي تسعى لتجنيب المنطقة الهجوم العسكري أكثر مما تسعى للتعامل معه وإدارته.
ثانياً: حماية القوات المتمركزة في إدلب وتأمينها خلال أي عملية عسكرية بأي مستوى من المستويات، وهو إجراء منطقي ومتفهم في ظل التهديدات والحشود من الطرف الآخر، وفي ظل وجود 12 نقطة مراقبة تركية في إدلب بناءً على تفاهمات أستانا.
ثالثاً: قد تحمل التعزيزات التركية معنى هجومياً أيضاً إضافة للمعنيين الدفاعيين السابقين، لكنه ليس بالضرورة موجهاً للنظام وروسيا بالتبعية؛ ذلك أن ذريعة الهجوم هي وجود “هيئة تحرير الشام” وسيطرتها على مناطق واسعة في إدلب، وهي المنظمة التي عملت أنقرة على مدى شهور طويلة على حلها وإذابتها بالوسائل الناعمة، والتي أعلنتها قبل أيام منظمة إرهابية، والتي مايزت فصائلُ من المعارضة السورية نفسها عنها – بدعم تركي – بالإعلان عن “الجبهة الوطنية للتحرير”. سعي أنقرة لسحب الذريعة من يد الأسد قد يعني تحركاً تركياً لمواجهة الهيئة إما بشكل مباشر أو عن طريق الجبهة الوطنية للتحرير، وهو سيناريو أكثر ترجيحاً من سابقه.
لقد تجنبت تركيا حتى الآن أي حل عسكري مع الهيئة، لعدم التسبب بفوضى داخل إدلب ومنعاً لانعكاسات ذلك على الداخل التركي، لكن إن بقيت خياراتها محصورة في عمل عسكري للنظام وروسيا بحجة الهيئة أو مواجهتها لسحب الذريعة، فقد يكون الخيار الثاني مقبولاً ومنطقياً، لا سيما وأن الجهود السابقة قد أثمرت جزئياً عن بعض الانشقاقات أو التصدعات داخل الهيئة.
لا يعني كل ما سبق أن سيناريو المواجهة مع النظام مستحيل، فبعض التطورات المقصودة أو غير المقصودة مثل استهداف القوات التركية أو تعرضها للأذى أو تجاوز العملية المفترضة لحدود معينة قد تؤدي لردة فعل تركية، من الصعب ضمان مسار الأحداث بعدها، لكن ذلك يعني أن المواجهة مع دمشق وموسكو ليست “خيار” أنقرة، ولم يرد ذلك في التصريحات الرسمية التركية.
صحيح أن تركيا تنظر بحساسية شديدة إلى مصير إدلب، وترى أن العملية العسكرية تستهدفها مثلما تستهدف المعارضة هناك، وأن سيطرة النظام على إدلب ستفتح الباب على مطالبتها قريباً/لاحقاً بالخروج من شمال سورية، بما يحول إدلب إلى خط الدفاع المتقدم لأنقرة، لكن المحددَّيْن الرئيسَيْن للموقف التركي -كما عبر عدة مسؤولين، في مقدمتهم أردوغان- هما تجنيب المدنيين مأساة إنسانية ومقتلة، وتجنيب الأراضي التركية لموجة نزوح كبيرة.
وبالتالي فإن السيناريوهات العديدة التي يمكن أن تضمن هذين المحددين قد تكون مقبولة أو مسكوتاً عنها بالحد الأدنى، ما يعزز من فرص التوصل لحلول وسطى بخصوص إدلب بين تركيا وروسيا وإيران، وإن كان من الصعب الجزم بتحقق سيناريو بعينه.
المصدر: “عربي بوست”.