عرف الاقتصاد الإسلامي مع ميلاد الإسلام، وانتشر فكراً وتطبيقاً في عهد الرسالة وما بعدها ما يزيد على عشرة قرون، حتى تم تنحيته بتنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم بفعل الاستعمار الذي جاء ليخرب ويسيطر على مقدرات المسلمين وتغيير هويتهم.
وقد تميز الاقتصاد الإسلامي كعلم بتوفيقه بين حاجات البشر المادية والمعنوية، وما استخلفهم الله تعالى فيه من موارد وفقاً لأحكام وقيم ومقاصد الشريعة الإسلامية لتحقيق الرفاه في الدنيا والآخرة.
الاقتصاد الإسلامي يراعي حاجات البشر الروحية جنباً إلى جنب مع الحاجات المادية في ظل دائرة الطيبات، بعيداً عن استعباد المادة وتقديس اللذة كما في النظام الرأسمالي، أو قتل الحاجات بتوجيه أهل الحكم والسلطة في النظام الاشتراكي، والنظام الاقتصادي الإسلامي كذلك ينظر للموارد الاقتصادية على أنها استخلاف، وأن السعي لاستخدامها الاستخدام الأمثل يمثل فريضة إسلامية لتحقيق الكفاية والحياة الكريمة لأبناء المجتمع، كما يهذب الحاجات بقيم الإسلام ولا يتركها تخرج عن المألوف وتستعبد الناس، وهو في الوقت نفسه لا يرضى أن يعيش مواطن في دولة الإسلام دون حد الكفاية، ويتخذ من إحسان اقتصاد الدنيا مزرعة للوصول إلى إحسان الآخرة.
كما تميز الاقتصاد الإسلامي كنظام بالربانية والشمولية والمرونة والتوازن والواقعية والعالمية، وقوامه في ذلك الملكية الفردية والحرية الاقتصادية المنضبطة والتكافل الاجتماعي في ظل دائرة الاستخلاف؛ لذا فالقطاع الخاص قاطرته التنموية، والدولة تعمل على تهيئة المناخ اللازم لممارسة القطاع الخاص دوره بفعالية ومسؤولية استخلافية جنباً إلى جنب مع القطاع الثالث أو الخيري الذي يتوسع وينكمش وفق درجة الإيمان في المجتمع والوعي الجمعي بقيمة فعل الخيرات، ويبقى دور الدولة الأساسي في بناء قوتها العسكرية وتحقيق الأمن والعدل وإقامة المشاريع التي يعجز القطاع الخاص عن إقامتها أو تمس بصورة مباشرة أمنها القومي.
بين الماضي والحاضر
لقد شهد تاريخ أمة الإسلام اقتصاداً عالمياً كان يخاطب فيها الحاكم المسلم السحابة فيقول لها: «اذهبي حيث شئت فسوف يأتيني خراجك»! ونحن اليوم أمة تعيش يومها بيومها، ويتحكم فيها عدوها، وتستأثر القلة بثروتها، وكل ذلك نتاج بغيض لمستعمر حاقد قسم دول الإسلام إلى دويلات، وقطع كل الطرق لاتحادها في الوقت الذي يحكم 51 ولاية أمريكية رئيس واحد، وتستظل دول الاتحاد الأوربي بظلال الوحدة.
إن الاستعمار إذا كان قد زال عن ديار المسلمين فإنه في الوقت نفسه ترك أذنابه ليطمسوا ما تبقى من هوية الأمة، ومنها الهوية الاقتصادية، ولكن كتب الله لدينه البقاء، وما قل رجاله الذين أخلصوا نياتهم لله، وعلموا قيمة جنسية الإسلام كوطن، وخيرية مكانتهم بالتزامهم بدين الإسلام، فهرعوا ليوقظوا الأمة من نيام، ويستحثوا فيهم حركة الوعي الاقتصادي، وكان في مقدمة هؤلاء الشيخ حسن البنا، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد عبدالله دراز، والشيخ أبو الأعلى المودودي.. وغيرهم من علماء الدين.
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل امتد لعلماء الاقتصاد من أبناء الحركة الإسلامية، وفي مقدمتهم د. محمود أبو السعود، ود. محمد عبدالله العربي، ود. عيسى عبده، ود. أحمد عبدالعزيز النجار.. وغيرهم، حتى ولد في العام 1975م أول بنك إسلامي حكومي دولي ممثلاً في البنك الإسلامي للتنمية، وأول بنك إسلامي قطاع خاص ممثلاً في بنك دبي الإسلامي الذي جاء بجهد مالي وإرادة صادقة من الحاج سعيد لوتاه، وجهد فكري وعمل مخلص من د. عيسى عبده.
وبذلك ظهرت اللبنة الأولى لمؤسسات الاقتصاد الإسلامي في واقعنا المعاصر من خلال البنوك الإسلامية، ثم جاءت اللبنة الثانية من خلال شركات التأمين التكافلي الإسلامي، والثالثة من خلال مؤسستي الوقف والزكاة اللذين رغم دورهما المحوري في تاريخ الحضارة الإسلامية فإنهما شهدا انحساراً متعمداً يقوده مستعمر غاصب حاقد، ولكن الله تعالى قيّض لهاتين المؤسستين من يبنيهما بناء عصرياً ينشر العمل الخيري في ربوع الدنيا بصورة منظمة وواعية من خلال دولة الكويت التي تعتبر تجربتها في هذا الشأن تجربة يقتدى بها في كل ربوع الدنيا وعلى نهجها سار عدد من الدول الإسلامية.
ثقوب
رغم هذا الجهد الملاحظ للاقتصاد الإسلامي علماً ونظاماً ومؤسسات، وتحويل ما في بطون الكتب إلى واقع تلمسه الأمة، فإنه أصابه الضرر في ثوبه المعاصر من خلال أمرين، هما:
الأول: حصره في البنوك الإسلامية بما لها وما عليها لا سيما ما أصاب بعضها من انحراف واضح عن المنهج الإسلامي من خلال ابتداع الحيل الشيطانية من تورق منظم وقلب الدين ونحوها، وتقبيل أعتاب البنوك التقليدية حتى باتت تابعة لا متبوعة، وهي مع كل ذلك تجربة بشرية لها ما لها وعليها ما عليها، والحق لا يعرف بالمؤسسات الإسلامية ولكن يعرف بأهل الحق، ولا قيمة للتغني بأرقام معدلات النمو لتلك الصناعة المصرفية مع إغفال الكيف من حيث الالتزام الشرعي وتحقيق البعد التنموي والسماحة في سعر العائد بعقود المعاوضات بصورة تميزها تنافسياً عن البنوك التقليدية، وابتكار كل جديد لتوفير الخدمات للناس بصورة توائم بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
الثاني: تحويل التجربة المعاصرة للاقتصاد الإسلامي -لا سيما في المصرفية- من صناعة إلى تجارة يقاتل الرافعون ضراراً لشعارها والنفعيون منها على مصالحهم الربحية، حتى بتنا نرى من يزين الحرام ويغلفه لكي يكون حلالاً، وتحولت حال بعض البنوك الإسلامية وحال بعض مؤسسات التأمين التكافلي مثل حال المسلم الذي يتفاخر بإسلامه وهو لا يصلي، لا سيما بعد ظهور فقهاء بنوك أسوة بفقهاء الحكام، وملاك لبنوك أعمتهم الربحية، مع تأكيدنا أن من أهل الرقابة الشرعية ومن الملاك من يتسمون بالإخلاص والكفاءة ولا يمارون ولا يدارون.
ويبقى بعد ذلك التأكيد على أن البعد السياسي والشرعي عاكس لوضع الاقتصاد الإسلامي نمواً وانحساراً، إخلاصاً وحيلاً، تطبيقاً فعلياً أو شكلياً، وإذا كانت تجربة المصرفية الإسلامية تمثل المؤشر العام للاقتصاد الإسلامي من خلال نموذج أذون الخزانة بمصر، أو نموذج التورق المنظم في بعض دول الخليج، أو نموذج التيس المستعار وبيع الديون في ماليزيا -التي للأسف يهرع الكثير إليها ظناً بإسلامية تجربتها مع أنها لا تحمل من الاقتصاد الإسلامي إلا اسمه، ويغلب عليها المظاهر التجميلية بعيداً عن المضامين الحقيقية- فإنه في الوقت نفسه ما زالت تجربة الوقف والزكاة بخير، وهو ما يتطلب توجيه الجهود لتعزيز القطاع الثالث، مع أهمية بروز تكامل حقيقي بين رجال أعمال مخلصين وعلماء عاملين في حقل الاقتصاد الإسلامي لبناء نموذج اقتصادي مصرفي ومالي يبرز معالم النظام الاقتصادي الإسلامي، وهو ما يحتاج إلى إرادة سياسية وبيئة حاضنة.
وفي رأينا، فإن تركيا مؤهلة لذلك بما تملكه من حرية ملموسة وتوجه عقلاني تدريجي نحو التغيير للاقتصاد الإسلامي بإرادة سياسية حاضنة تتفق والسنن الكونية للتغيير، والله تعالى أعلم.