- حجم المياه العذبة التي تصلح للاستهلاك الآدمي لا يزيد عن 2.5% من المياه الموجودة على الأرض
- الاستهلاك الزائد وإعادة التوزيع وتحويل الأنهار والعجز عن الإفادة بالمتاح أهم أسباب الندرة المائية على الأرض
- رغم أن قارة إفريقيا من أغنى قارات العالم بالمياه فإن معظم أرجائها يعاني من الجفاف
- سبق الإسلام النظريات الوضعية بأمره بالاقتصاد في استخدام الماء ووضع من التوجيهات ما يحل كثيراً من مشكلاتها
تتمثل أبرز جوانب المشكلة الاقتصادية لدى علماء الاقتصاد الوضعي فيما يسمونه “الندرة النسبية”؛ ويعنون بها أن في الكون موارد نادرة وقليلة وشحيحة لا تكفي إشباع كل احتياجات الإنسان، فضلا عن رغباته التي تتعدى درجة الاحتياجات. ويأتي الماء ضمن هذه الموارد التي تراها المذاهب الوضعية شحيحة ونادرة في الكون، ولا تفي بكافة احتياجات الإنسان، بل ولا تكفي الناس جميعا؛ لذلك يتزاحمون ويتقاتلون عليه، فضلا عن أن هذا التزاحم يؤدي من ناحية أخرى إلى أن الأقوى أو الأغنى يحظى على قدر أكبر من احتياجاته منه، في حين يُحرم الأضعف أو الأفقر من بعض احتياجاته الأساسية من المياه.
أما علماء الاقتصاد الإسلامي -خاصة في بواكير ظهور الكتابة الحديثة في هذا العلم- فقد رفضوا الاعتراف بوجود الندرة النسبية للمياه أو لغيرها من موارد الطبيعة؛ فالدكتور عبد العزيز فهمي هيكل ينفي وجود الندرة النسبية في الموارد في أصل الخلقة؛ أي أن الله لم يخلق الموارد شحيحة. [1]
ويقول د. عيسى عبده: “ليست الندرة أصلاً من أصول الخلق، وإنما هي مجرد ظاهرة ترجع إلى أسباب يدركها كل اقتصادي على قليلٍ من التأمل”[2].
أما الدكتور عبد المنعم عفر فلا ينكر أصل الندرة من الناحية الاقتصادية، ولكنه يرفض أن تكون هي سبب المشاكل الاقتصادية. وإلى مثل رأيه يذهب الدكتور سامي السويلم؛ حيث يقول: “الندرة ليست مشكلة؛ بل هي حقيقة تدعونا لضبط إنفاقنا واستهلاكنا للموارد”.
ويستدل أصحاب هذا الاتجاه على مذهبهم بالآتي:
1-قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9، 10].
وجه الدلالة: أن الآية تدل على أن من معاني كلمة ( قدَّر) جعل الأشياء على مقدار مخصوص حسب اقتضاء الحكمة الإلهية؛ فتكون الندرة ليست أصلا من أصول الخلق، بل الوفرة هي الأصل، فهذه الآية وما في معناها تدل على أن الله تعالى وفر للإنسان في هذا الكون الفسيح كل ما ينفعه ويحقق له مصالحه، ووفر له من الموارد ما يكفي لحاجاته المادية.
2-وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21].
وجه الدلالة: أن كلمة موزون تعني أنه وزن بميزان الحكمة، وقدِّر بمقدار لا يصلح معه الزيادة أو النقصان، فالندرة دليل على وجود الاختلال، وهو نقيض التوازن الذي قدره الله تعالى.
يقول ابن القيم: “وعطاء الرب ونعمه أوسع من حوائج خلقه، فلا بد أن يبقى في المياه والأقوات والنبات وغير ذلك أجزاء مهملة”[3].
موافقة إسلامية
لكن بعض علماء الاقتصاد الإسلامي يقرون بوجود الندرة النسبية وباعتبارها سببا رئيسًا في المشكلة الاقتصادية، من هؤلاء د. رفيق المصري، ود. عبد الهادي النجار، وآخرون.
ويستدل أصحاب هذا الاتجاه بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر: 21]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، وقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وقوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11].
وجه الدلالة: أن هذه الآيات دلت على أن الموارد في الأصل غير متاحة لبني البشر بالطبيعة، ولكن الله ينزل ما يشاء كيف يشاء ومتى شاء، فآية ( المؤمنون) تتحدث عن إنزال الماء بقدر معلوم، وهذا وصف قريب لواقع الموارد في فرضية الندرة. [4]
من التنظير إلى الواقع
وبعيدا عن هذا الخلاف التنظيري، فإن الواقع يشهد بندرة المياه العذبة؛ فحجم المياه العذبة التي تصلح للاستهلاك الآدمي لا يزيد عن 2.5% من المياه الموجودة على كوكب الأرض، البالغ حجمها 1.4 مليار كيلومتر مكعب، ومعظم هذه النسبة من المياه العذبة يتعذر الوصول إليها؛ إذ نحو 70% منها محتجز في الأنهار الجليدية والثلوج والجليد، كما يتمثل أكبر مصادر المياه العذبة في 8 ملايين كيلومتر مكعب من المياه الجوفية؛ حيث لا تحوي الأنهار والجداول والبحيرات إلا نسبة 0.3% من المياه العذبة (أي 105.000 كيلو متر مكعب)[5].
أسباب الندرة:
ولهذه الندرة المائية أسباب عديدة لا تنحصر في أصل إنزالها على الأرض، فمن هذه الأسباب:
1-الاستهلاك الزائد الذي يؤثر على المصادر.
2-إعادة توزيع الماء أو تحويل الأنهار.
3- عجز الإنسان عن الإفادة بالمياه الموجودة؛ فقد توجد المياه، لكن لا توجد الإمكانيات المادية والاقتصادية التي تسمح بإنشاء البنية الأساسية اللازمة لتوصيل إمدادات المياه للشرب
والري والصرف [6].
ومهما اختلفت أسباب الندرة المائية، فإن آثارها خطيرة على الأرض وعلى الإنسان، تتبعها مشاكل اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية. ويبقى الإنسان في كثير من الأحيان هو العامل الأساسي في إحداث هذه الندرة وفي إمكانية تفاديها.
وتتباين أقاليم العالم المختلفة بدرجة غناها أو فقرها بالمياه المتاحة إلا أن جميعها باتت تشهد انخفاضا في متوسط نصيب الفرد من المياه المأمونة إما بسبب الزيادة المرتفعة في أعداد السكان أو بسبب الإفراط في الاستهلاك والهدر والتلوث وأحيانا.
ندرة أم سوء استخدام؟
توافر الموارد المائية في بلد ما لا يعني بالضرورة ارتفاع معدلات استهلاك المياه، ولا يعني بالتالي حتما ارتفاع مستويات التنمية فيه.
كما أن الندرة النسبية في الموارد المائية لا تعتبر سببا قاطعا لانخفاض مطلق في معدل استهلاك المياه، ولا تشكل بالتالي عاملا معرقلا بالمطلق لعملية التنمية؛ فقارة إفريقيا التي تعاني معظم أرجائها من كوارث الجفاف هي من أغنى قارات العالم بالمياه لكنها لا تستغل سوى 3% من مصادرها المائية.
ووفق دراسة قدمت إلى المؤتمر الدولي حول المياه والبيئة الذي انعقد في دبلن سنة 2007، فإن دولة البحرين على الرغم من أنها أفقر بلدان العالم بمصادر المياه العذبة، غير أن المواطن يحصل فيها على أعلى حصة للفرد من المياه النقية في العالم، بينما يعتبر المواطن في بنجلاديش الغنية جدا بالمياه من أفقر سكان الأرض من حيث حصته من المياه النقية؛ إذن فمشكلة الندرة ترتبط ارتباطا كبيرا بالقدرة على إدارة وتنظيم استخدام الموارد المائية المتاحة مهما كان حجمها بكفاءة علمية عالية لتحصيل أكبر قدر من الفائدة منها.[7]
التعايش مع ندرة المياه
في ظل ندرة المياه، تتجه معظم السياسات إلى البحث عن إمدادات جديدة للماء، مما يزيد في العرض لمواجهة زيادة الطلب.
في كتابه “التعايش مع ندرة المياه”، يتساءل ديفيد زتلاند: هل زيادة العرض من خلال إيجاد مصادر جديدة للمياه العذبة هو الحل لمواجهة ندرة المياه؟
ويجيب: زيادة العرض لا تتطرق إلى جذور القضية، فإذا لم توضع سياسات محددة لاحتواء النموّ المتزايد في الطلب على المياه، فسوف يطغى الطلب على العرض، ويسبّب عجزاً مائيًّا؛ لذلك فإدارة الطلب على المياه هي الحل لندرة المياه المتزايدة.
فمن الحلول التي يطرحها ترشيد استخدام المياه، وهو هنا لا يعول على الضمائر والثقافات للترشيد، فيقترح حلولا قسرية لإجبار الناس على الترشيد، منها أن ترفع الدول دعم المياه، وتقدمه للمواطنين حسب سعره العادل، وزيادة السعر بدوره سيحمل المواطنين على الاستخدام الرشيد للمياه؛ ليس حفاظا على الماء، ولكن حفاظا على المال الذي يدفعونه مقابل الحصول على الماء.[8]
سبق الإسلام
وقد سبق الإسلام هذه النظريات بأمره بالاقتصاد في استخدام الماء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: مر بسعد وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السرف يا سعد». قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: «نعم وإن كنت على نهر جار». رواه أحمد وابن ماجه.
بالإضافة إلى الكثير من التوجيهات التي وضعها الإسلام للحفاظ على المياه وحسن توزيعها واستثمارها الاستثمار الأمثل.
الهوامش:
[1] – انظر كتابه: مدخل إلى الاقتصاد الإسلامي.
[2] – انظر كتابه: الاقتصاد الإسلامي مدخل ومنهاج
[3] – شفاء العليل (ص: 233)
[4] – انظر مقدمة في أصول الاقتصاد الإسلامي، محمد علي القري.
[5] – معضلة ندرة المياه وأثرها على الأمن الإنساني، خالد شفيعة. مجلة دفاتر السياسة والقانون. العدد 19، سنة 2018م.
[6] – السابق، وانظر المشكلة الاقتصادية بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي، د. عيسى عبده.
[7] – معضلة ندرة المياه وأثرها على الأمن الإنساني.
[8] – انظر عرض غادة البستكي لكتاب التعايش مع ندرة المياه، مجلة دراسات، العدد1/، سنة 2014، الناشر: مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة.