استيقظ العالم أمس على فاجعة كبرى وحادثة دموية شنيعة راح ضحيتها عشرات القتلى وعشرات المصابين من المسلمين في هجوم وحشي على المصلين أثناء صلاة الجمعة في مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش بجزيرة ساون آيلاند بنيوزيلندا.
وعلى الهواء مباشرة استقلَّ القاتل الجبان سيارته وبصحبته عدد من الأسلحة الرشاشة، وعلى أنغام الموسيقى الملائمة لمقصده الإجرامي بدأ يقنص ضحاياه من الركع السجود في مشهد يزلزل ضمير كل إنسان حول العالم له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقد بدأ القاتل الجبان وكأنه يتلذذ بتدنيس بيت الله وتقتيل الشيوخ والأطفال والنساء.
يأتي هذا العمل الإرهابي في سياق متصل من الهجمات على مساجد المسلمين في الغرب وعلى النساء المحجبات، ولا يمكن أن نعزله عن تصاعد اليمين المتطرف في دول الغرب عامة والشحن لشيطنة الإسلام والمسلمين، ووضعهم دوما في دائرة التهمة، ولم تبرأ بعض الأحزاب الأخرى من الدخول في المزايدات على اليمين نفسه ضد المسلمين.
ويتساءل المسلمون في الغرب: ماذا بعد فاجعة الأمس؟
حتى متى نبقى مهيضي الجناح؟
تُستباح دماؤنا وتتنهك مساجدنا ويُعتدى على حرماتنا؟
لقد أطالوا الحديث عن الإرهاب والتطرف وها نحن أول ضحاياه فعن أي إرهاب يتحدثون؟
إلى أى مدى تتصاعد وتيرة الكراهية ضد الإسلام والمسلمين التي في ظلها تُزهق الأرواح، ويُيتم الأطفال، وتُرَّمل النساء؟
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: 114).
على الرغم من الحزن الساكن قلوبنا فإننا نبعث هذه الرسائل :
أولا: إن ما يقع في ملك الله فهو بقدر الله:
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49).
والآجال والأعمار عند ربنا معلومة: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34).
{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51),
ثانيا: كلنا سنموت ونلقى الله، فلنمت ميتة شريفة ونسأله حسن العاقبة وكما قال أبو الطيب المتنبي :
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ *** كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
نعم، نحن في حزن شديد، لكن مع الحزن نحتسب من قُتلوا أمس عند الله شهداء، وقد ختم الله لهم بالحسنى، غادرت أرواحهم الطاهرة هذه الحياة المليئة بالظلم والقهر إلى دار الخلود، وتركوا وراءهم قلوبا كسيرة، وأوراحا تتطلع ليوم تتنكس فيه راية الظلم والإجرام.
مات رجل في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظروا خاتمته وكيف يُبعث يوم القيامة: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْه وَلَا تُحَنِّطُوهُ ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّياً” (رواه البخاري ومسلم) .
فهنيئا لكل من لقي الله قائما على خدمة دينه، أو راكعا أو ساجدا، أو تاليا أو ذاكرا، وويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لمن أراق هذه الدماء ورَوَّع تلك القلوب .
ثالثا: كالعادة لم تتناول وسائل الإعلام العالمية المجزرة الإرهابية كما تستحق، لم تصنع منها قضية رأى عام دولي أسوة بما هو أقل منها بكثير كـ”شارل إبدو” التي انتفض العالم لأجلها، وكنا نحن أول من رفض ذلك، وأدان الجريمة إيمانا بالمبدأ الإسلامي الأخلاقي في التضامن مع كل مظلوم .
هذا الكيل بمكاييل مختلفة يضاعف ألم المسلمين في الغرب ويشعرهم بالخوف على حياتهم وأبنائهم.
رابعا: علينا جميعا في الغرب والشرق أن نملأ قلوبنا بالخوف من الله وحده لا شريك له، وألا نعطي لكل خوَّان كفور غايته، ولنعش في ظلال هذه الآيات التي يستعلي المسلم بها فوق المخاوف والأراجيف:
“{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 173-175).
فلن يرهبنا شيء عن التعلق بالمساجد وعمارتها بالعلم والذكر وحسن البناء والتطوير وتربية الأجيال في رحابها {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18).
خامسا: على مسلمي الغرب أن يتحلوا بضبط النفس، وأن يتجنبوا تماما ردود الأفعال، وأن يلتزموا بتعاليم الإسلام وأخلاقه وقيمه في التعامل مع الأمور والناس؛ فكما أننا نرفض الظلم والكراهية وكل صور العنصرية، نرفض كذلك أن نظلم بريئا أو نقترف بهتانا أو نقول زورا أو نجر شرا على أحد من الناس .
سادسا: علينا أن نضاعف الجهود من أجل إيجاد مناخ عام يرفض كل صور العنف والتطرف وربطها بالأديان، وأن نحقق مشاركة فعَّالة على مستوى الحضور المجتمعي والسياسي؛ فإن دعاة الكراهية واليمين المتطرف لم يحقق تقدما إلا في ظل عوامل كثيرة، منها ضعف المشتركة المجتمعية والسياسية للمسلمين في الغرب .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
——-
* رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا.