عبدالوهاب القرش (*)
العبادة في الإسلام حق واجب من حقوق الله تعالى على عباده؛ يقول مُعَاذٍ رضي الله عنه: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذ؛ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟». قلتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ! قالَ: «فإنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ: أَنْ لا يُعَذبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، فقلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَفلا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لا تُبَشِّرْهُمْ فيَتَّكِلوا» (رواه البخاري ومسلم).
إن مفهوم العبادة في الإسلام أعم وأشمل مما يعتقده كثير من المسلمين، من مجرد الصلاة والزكاة والصيام والحج فقط، ولكن العبادة التي خلقنا الله من أجلها هي تعظيم الله عز وجل والخضوع والتذلل له وإفراده بالطاعة المطلقة، فإذا جاء أمره سبحانه يجب أن يسقط من حسابنا كل أمر عدا أمره عز وجل..
إن العبادة في الإسلام لا تعني –كما هو الحال في كثير من الأديان والعقائد– حوارًا جزئيًا مع الله سبحانه وتعالى في ساعات معينة من الليل والنهار، حوارًا يعبر عن نفسه بأداء حركات محددة، واستعادة تعابير وصلوات مكتوبة سلفًا، وهدوءًا جسديًا موقوتًا بزمن هذا الحوار، وما إن تتم هذه العبادة الجزئية، أو الصلاة التي لا تعدو أن تكون “صلة” وقتية تسودها الآلية والكسل الروحي في معظم الأحيان، حتى ينقلب الإنسان إلى تيار الحياة الهادر الصاخب، “يحرك” مكوناته التي جمدتها لحظات الصلاة!! ولكي ينطلق متعاملاً مع الآخرين بشخصيته الثانية الدنيوية العملية الحركية.
أما في الإسلام فإن كل فاعليات الإنسان حركاته وسكناته، ظاهره وباطنه، علاقاته الأسرية والاجتماعية والدولية تبدو عبادة لله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162-163). إنها حق لازم على العبد حتى يموت، وقد قال سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(الحجر: 99).
ومن شرط قبول الله عبادة من العبد أن يضع الله نصب عينيه، وحفظ اسمه العظيم في فكره وقلبه وأعصابه.. فهو يمارس العبادة الشاملة أنى كان: في البيت أم في المسجد، في المدرسة في الجامعة، أم في السوق، أو المعسكر، أم في الحقل أم المصنع، في تنقله وأسفاره وكفاحه، أم في عزلته وتأمله وهدوئه.
وما الصلوات الخمس والأذكار إلا محطات للتذكير، ولشحن الطاقة الروحية للإنسان كي يقدر على مواصلة المسير، والله نصب عينيه واسمه الكريم في قلبه وفكره ووجدانه. وما صوم رمضان إلا لحظة سنوية لأداء مهمة.. أما الحج فهو محطة العمر التي يغادرها الإنسان نقيًا خفيفًا متجردًا، كيوم ولدته أمه..
وما عدا هذا فكل ساعات الليل والنهار عبادة.. وكل الممارسات العملية والروحية والفكرية والحركية عبادة.. وكلما كان الله سبحانه وتعالى أكثر تجليًا للإنسان خلال إحدى ممارسته، جاءت تلك الممارسة أكثر انسجامًا مع مفهوم العبادة مع مفهوم العبادة الشامل العميق.. وهذا التجلي، أو الإحسان بلغة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتحقق إلا بالصبر والمران، والدأب، لكيلا يلبث أن تجيء ثماره حلوة كالرحيق المختوم.
ومن أولى من الممارسة الفنية التي تهز كل طاقات الإنسان أن تكون عبادة يتمتع خلالها الإنسان المسلم بأقصى درجات (التجربة) التي تطهره وتزكيه، وتقفه أمام الله سبحانه وتعالى، لكيلا تلبث حياته، بعد المران والصبر والدأب، أن تغدو لحظات من الحمد والتسبيح والإحسان، تتوازن فيها وتستوي تجربتا الأخذ والعطاء.
________________________________
(*) المصدر: إسلام أون لاين (بتصرف يسير).