بدأت سيرة هذه الأمة برجال لا يبخلون بأموالهم وأنفسهم أن ينفقوها في سبيل الله تعالى، وسَجَّلت صفحات التاريخ الأولى لقصة الأمة المسلمة موقف أبي بكر رضي الله عنه وهو ينفق الأموال ليشتري بها العبيد والإماء الذين أسلموا ليُنْقِذَهم من العذاب، ثم يعتقهم فيحررهم، فإذا العبد المعذب بالأمس يصير مسلماً حراً اليوم، وأشهر هؤلاء قاطبة بلال بن رباح، مؤذن النبي وصاحبه، الذي ضُرِب به المثل في صبره واستهانته بنفسه في سبيل الله! حتى قال عمر، وهو العربي القرشي، «أبو بكر سيدُنا، وأعتق سيدَنا».
ثم مضت سيرة الدعوة حتى هاجر المسلمون إلى المدينة، فابتدأت سيرة الدولة الإسلامية برجال لا يبخلون بأموالهم وأنفسهم أن ينفقوها في سبيل الله تعالى، ولقد ضرب الأنصار مثلاً رفيعاً سامقاً لولا أنه جاءنا بأصح الأسانيد ينقله الثقة عن الثقة لظننا أنه من أساطير الأولين وخرافات القصاصين، لقد استقبل القوم في بلادهم طوفاناً من المهاجرين، بل تسابقوا على استضافتهم، حتى صارت تضرب القرعة بين الناس على من يستضيف! «فما نزل مهاجر على أنصاري إلا بسهم»، ثم بلغت الحال أن الأنصاري يعرض نصف ماله على أخيه المهاجر، بل يعرض أن يطلق إحدى زوجتيه ليتزوجها أخوه المهاجر، هذا خبر لا يُصَدَّق، ولو أن أحدنا طالب أحداً أن يفعل ذلك لوقع في نفسه أنه مجنون! ولهذا يجب أن نعرف عظمة أسلافنا الأنصار الذين أقبلوا على هذا الذي نعده جنوناً وهم فرحون مستبشرون، ولقد وصفهم الله بوصف انفردوا بهم، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) (الحشر: 9)؛ أي أن الأنصار دخلوا في الإيمان وسكنوا فيه وكان لهم وطناً.
ومن نظر في القرآن الكريم، وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجد عجباً، فإن الله تعالى قد خاطب النفس من جميع مداخلها كي تتخلص من البخل فتنفق في سبيله.
الإنفاق في القرآن
فقد تكرر في القرآن الكريم أن الإنفاق في سبيل الله من صفات المؤمنين، حتى إن المرء ليخشى على من لا ينفق ألا تكون له صفة الإيمان، ففي أول آيات القرآن الكريم وصف للمؤمنين بأنهم: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (البقرة: 3)، وجاء في سورة «الحجرات»: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 15)، ويُفهم هذا من قوله تعالى في سورة «الحديد»: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا) (الحديد: 10)، فالمفهوم من الآية أن كل مسلم هو مُنْفِقٌ بالضرورة، إلا أن الذين أسلموا قبل الفتح أعظم درجة من الذين أسلموا بعده، والفتح المقصود هنا هو صلح الحديبية.
كذلك تكرر في القرآن الكريم أن الله وصف إنفاق المال بأنه جهاد في سبيل الله، قال تعالى: (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) (النساء: 95)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (الأنفال: 72)، بل وقدَّم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وهو ذروة سنام الإسلام كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبر الله أن البخل من صفات الكفار والمنافقين، وأنه سمة من يتخلف عن رسول الله؛ (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (التوبة: 81)، وقال تعالى: (لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (التوبة: 44).
وكرر الله تبارك وتعالى في كتابه أن المال الذي ينفقه صاحبه لا يضيع، بل إن الله يحفظه له وهو العليم الخبير البصير، ثم إنه ينميه ويضاعفه له حتى يبلغ أن يكون سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله؛ (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 261)، ومن بديع ما رقق الله به القلوب ووجهها إلى الإنفاق أنه تعالى سمَّاه قرضاً لله، وهذا معنى عظيم تخشع له النفوس، إذ لا يتصور الإنسان نفسه وهو الضئيل الضعيف القليل أنه يُقرض الله شيئاً، كأن الله في حاجة إليه أو إلى ماله، ثم إنه قرض موعود بالمضاعفة حين الردَّ! وهذا معنى أعظم وأعظم، إذ الإنسان لو احتاج إليه عظيم من عظماء بلده صاحب فضل عميم قديم لأقرضه ولم يتردد وهو يستشعر الشرف، فكيف إذا كان موعوداً بالمضاعفة؟! قال تعالى: (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (التغابن: 17).
وفي المقابل، فإن الذين يبخلون بأموالهم إنما يصنعون العذاب لأنفسهم كما قال تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (آل عمران: 180)، وأسوأ هذه الأصناف رجل سأل الله أن يغنيه وعاهد الله أنه ينفق المال في سبيله إذا أغناه، فإذا به ينقلب فيصير حاله كما قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) (التوبة).
وقد أقسم رسول الله على أن المال لا ينقص بالإنفاق، وهذا القسم من النبي دليلٌ على ما في النفس من البخل وحب المال حتى ليحتاج النبي في توجيهها إلى القسم كي تطمئن النفوس فتبذل المال، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة..»!
الرأسمالية المتوحشة
إن أمتنا اليوم في حاجة إلى الإنفاق في سبيل الله، لقد أنتجت هذه الجراحات والنكبات عشرات الملايين من اليتامى والأرامل والمشردين والجرحى واللاجئين، فضلاً عن الفقراء والمساكين والمحتاجين، فضلاً عن المصالح التي لا تقوم الأمة إلا بها من نشر العلم والإنفاق على طلبته وتربية الأطفال على حفظ القرآن وتعاليم الإسلام، وإن إنفاق الدينار في هذا اليوم خير من إنفاق آلاف الدنانير في معالجة آثاره فيما بعد، فالطفل الذي يحفظه الدينار والديناران في الكُتَّاب لا يكفيه الآلاف حين ينحرف فيصير إلى الإلحاد أو الإجرام والفساد حين يكبر!
إذا نشأ الفتى في مجتمع يتراحم الناس فيه فيعطف غنيهم على فقيرهم، فإن الخير يعود على الغني نفسه، ذلك أنه إذا نشأ في مجتمع يأكل الغني فيه حق الفقير، ويتضخم بامتصاص مجهوده؛ فإنه يوشك أن يتحول إلى قنبلة موقوتة تنفجر أول ما تنفجر في هذا الغني نفسه.
ولقد كانت أمتنا قبل عصر الرأسمالية المتوحشة هذا تتراحم فيما بينها، حتى ليكاد الغنى أن يقترن بالمروءة والكرم، ولا يكاد يُعرف الغني البخيل الذي لا يفتح أبواب بيته لإطعام الفقراء وإكرام الضيوف وكفالة المحتاجين، ما كان مثل هذا يُعرف في مجتمعاتنا قبل هذه الحداثة المادية الغبية التي نزعت التراحم من الناس، وأورثتهم بدلاً منها أحقاداً متبادلة تورث حذراً وبطشاً وضغائن لا تموت.
أمتنا اليوم بحاجة إلى المنفقين؛ لأننا أمة مهزومة مستضعفة تعاني جراحها، ومن يدري.. من يدري.. من يدري أن يكون غني اليوم فقير الغد اللاجئ المحتاج المطرود! وما هذا ببعيد.. فنحن نرى في يومنا هذا من كان غنياً بالأمس فصار اليوم إلى حالٍ يرثى لها!
فأنفقوا في سبيل الله؛ كي يقيض الله لكم من ينفق عليكم إذا احتجتم إلى ذلك يوماً ما! هذا إذا لم تنفقوا ابتغاء وجه الله وثواب الآخرة!
ثم أنفقوا.. فإن الصدقة تقي مصارع السوء.