في مفترق طريق أمة فقدَتْ نظاما سياسيا جمع لها وحدتها عبر قرون، وبينما هي في مفترق طرق بين نفر من أهلها يريدون سلخ الأمة من هويتها وتراثها الإسلامي، وبين قوم وقفوا جامدين يريدون التمسك بالتراث دون تجديد، وبين قوم أرادوا التوفيق بين الانسلاخ والجمود، ظهر الإمام البنا ليعلن فكرة إحياء الأمة بالإسلام استناداً على المعين الصافي الذي صنع هذه الأمة.
كان مُجَدِداً بحق لأنه نقل فكرته من النظرية إلى التطبيق، ومن بطون الكتب إلى قلوب الرجال، ومن الجامع إلى الجامعة، ومن الزوايا والتكايا إلى الشارع والمجتمع.
آمن بأن بناء الأمم يقوم على بناء النفوس وتشييد الأخلاق، فاخْتَطَّ لفكرته سبيلاً في بناء الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، لم يكتف فيه بالخطب والمواعظ، بل اعتمد على الخطط التربوية والمناشط العملية.
حَوَّل الجهاد من مباحث فقهية في الكتب إلى كتائب جاهدت الصهاينة في فلسطين وجاهدت ضد الإنجليز على ضفاف القناة.
حَوَّل نظريات الاقتصاد الإسلامي إلى مبادئ في التعامل مع المال ودعم المنتجات المحلية ومقاطعة البضائع الأجنبية، وأسس شركات مساهمة خاض بها مجال الصناعة والتجارة والطباعة.
اقتحم مجال الصحافة والدعاية في وقت كان يتناقش غيره في حِلْ وحُرمَة المذياع والميكروفون.
اقتحم بالإسلام مجال الفن وأنشأ في معظم شُعَب الإخوان فرقاً مسرحية، وقدمت فرقة إخوان القاهرة مسرحية “جميل بثينة” على نفقة وزارة المعارف، وشارك في تمثيلها نجوم المسرح المصري وقتها مثل جورج أبيض ومحمود المليجي وفاطمة رشدي…
ومن أهم ما أرساه من بعث وتجديد هو تحويله مهمة إحياء الأمة بالإسلام وتجديده من الفرد إلى الجماعة، ومن الجهود المُفرَقَة إلى التنظيم والتخطيط والإدارة.
هذه هي الفكرة المحورية التي أحياها الإمام البنا بعد طول ركود وتخلف، فكرة “إحياء الأمة بالإسلام”. إسلام ينتظم شئون الناس جميعاً في الدنيا والآخرة: فهو عقيدة وعبادة، وطن وجنسية، دين ودولة، روحانية وعمل، مصحف وسيف، سماحة وقوة، ثقافة وقانون، خلق ومادة.
استُشهِد الإمام “حسن البنا” وعاشت فكرته، وما زالت الفكرة هي لب صراع الأمة مع أعدائها، وكلما نبت لبذرتها ساق فوق سطح الأرض تكالب عليها أعداؤها لاجتثاثها قبل أن يشتد عودها.
فالغرب وأعوانه في بلاد المسلمين لا يعنيهم أبداً امتلاء المساجد بالمصلين، ولا تزعجهم زينات استقبال شهر رمضان، ولا كثرة عدد الحجيج، إنما يزعجهم أن يرسي الإسلام قواعده وقيمه وأخلاقه في السياسة والاقتصاد والثقافة، ويحَّوِل هذه الكتلة البشرية من سوق مستورد لبضائعها وأفكارها إلى ندٍ لها ومنافس.
ويظل التراث الذي تركه الإمام البنا في حاجة إلى تجديد جديد واجتهاد، فهو فكر لا تحتكره جماعة، بل هو ملك لأمة يُمَثل لها طوق النجاة.