معلوم أن التطبيع في مفهومه المعتمَد لا يستلزم وجود اتفاقية بين الكيان الصهيوني والدولة المطبِّعة، بل إن ما تحت الطاولة أضعاف مضاعفة لما هو فوقها، ولذا فإن تعريف التطبيع في الأدبيات السياسية يشير إلى أنه «كل اتفاق رسمي أو غير رسمي أو تبادل تجاري أو ثقافي أو تعاون اقتصادي مع إسرائيليين رسميين أو غير رسميين»(1)، بما يفتح النقاش لدراسة مختلف أشكال التواصل مع الكيان الصهيوني، بغض النظر عن البرتوكولات الرسمية.
وتكمن إشكالية التطبيع فيما يترتب عنه، فالتواصل مع الصهاينة يعني اعترافاً وإقراراً بوجودهم الذي هو نبتة استعمارية، غُرِست غرساً في قلب الأمة العربية والإسلامية، تحت دعاوى توراتية، تم إحياؤها بعد تاريخ سحيق يعود إلى أربعة آلاف عام، بشعارات تفترض أن فلسطين بلا شعب، وتُمنَح لشعب بلا أرض، والأدهى أن الأيديولوجية الصهيونية تستند إلى أسس دينية، توغلت في الضمير المسيحي الغربي، بل وتوحّدت مع اليمين الصهيوني في الولايات المتحدة، لتكون جزءاً من عقيدتهم المسيحية(2)، وهو ما يتضح بجلاء في الطابع الديني في خطب الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين خلال العقود الأربعة الأخيرة، بدءاً من «ريجان»، وانتهاء بـ «ترمب».
وهنا تكون المفارقة، فالخطاب الصهيوني ديني في أسسه ومنطلقاته، ومع ذلك تتجاهل النخبة العربية المطبّعة هذا البعد، وتستبعده من رؤاها؛ لأنها علمانية التوجه، تنتهج في طروحاتها الفكرية مبدأ الأمر الواقع، لتعطي شرعية وجود لهذا الكيان المغتصب، بل وتريد أن تنزع الخطاب الإسلامي عن جوهر الصراع مع الصهاينة، وبعبارة أوجز: تجيز للصهاينة ما تحرّمه علينا.
القاموس التطبيعي
وتبدت الإشكالية أعمق في القاموس الذي روّجته النخب الفكرية العربية الملتصقة بالمشروع التطبيعي، على نحو ما يشير جلال أمين، فلفظة «السلام» تحورت في الدلالة والواقع لتصبح «التسليم بكل ما يطلبه الإسرائيليون والأمريكيون»، وأن «تحديات السلام» هي امتداد لتحديات الحرب مع الفارق؛ بل إن التعاون مع «إسرائيل» يعني تعاوناً مع كيان مسالم، بل هو طريق السلام والاعتدال ونيل المصداقية الدولية(3).
ويتعاظم التلاعب أكثر مع انمحاء مصطلح العالم العربي والإسلامي، وترويج مصطلح «الشرق الأوسط»، الذي هو جزء من أجندة «إسرائيلية» في خطابها الموجه إلى العالم العربي(4)، مما يعني نزع الهوية الإسلامية والعروبية عن عالمنا، مع الاعتراف بما يسمى يهودية الدولة، الذي يطلبه الكيان الصهيوني في «صفقة القرن»، التي تستهدف قيام شرق أوسط جديد، على الواقع القائم في الأراضي المحتلة، بدون أن تخسر «إسرائيل» شيئاً؛ فلا دولة للفلسطينيين، ولا حق للعودة، ولا إزالة للمستوطنات، مع إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط لتكون «إسرائيل» هي القوة القائدة للمنطقة نظراً لتفوقها العلمي والتكنولوجي، وقدرتها على قيادة هذه الشعوب نحو رخاء دائم(5).
وهو ما يفسره عبدالوهاب المسيري بمصطلح «التطبيع المعرفي»، بإضفاء صبغة طبيعية على ظاهرة (أو كيان) لها خصوصيتها وتفردها وشذوذها، لتبدو منتمية إلى نمط عام سائد، وهو ما سقط فيه المثقفون والمفكرون العرب المطبّعون مع الصهاينة، حينما غالوا في التعميم باسم العلمنة والموضوعية، وإسقاط كل خصوصية عن الكيان الصهيوني، وجرائمه في حق فلسطين والأقصى والأمة.
وتبنّوا نفس المقولات التحليلية المستخدمة في دراسة النظم السياسية والعلاقات بين الدول، فرأوا أن الكيان الصهيوني دولة مثل أي دولة، ومن ثم يصبح الحديث عن تفوقها العسكري والاقتصادي مشروعاً؛ بغية الاستفادة منه، مع الإشادة بأن «إسرائيل» واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان، متناسين حجم المأساة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون من قصف واعتقال وتهجير وجدار عنصري فاصل، وأن «إسرائيل» هي كيان استعماري، معتمد على الدعم الغربي المطلق في كافة الوجوه، وأنها (إسرائيل) حتى اليوم بلا دستور مكتوب، ولا حدود سياسية ثابتة(6)، بل هي حدود متحركة، قابلة للتمدد بالاحتلال؛ لإقامة «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات.
ووفقاً لمنهجية المسيري، فإن الكيان الصهيوني يقوم بدور وظيفي لخدمة مصالح الغرب الاستعماري، بأن يُبقي المنطقة العربية في حالة حروب وصراعات مستمرة، مما يسهل الهيمنة عليها، ونهب ثرواتها، مع تعهد الغرب بضمان أمن «إسرائيل» وتفوقها العسكري وحمايتها بشكل مطلق ودائم(7).
وقد تحقق الكثير للمشروع الصهيوني، ولكن العقبة الكأداء -التي كانت وما زالت وحتماً ستستمر- هي رفض الشعوب العربية والإسلامية للوجود الصهيوني، والنظر إليه على أنه كيان دخيل، فلا يمكن للمدافع والصواريخ أن تلغي قناعات المسلمين، فالقضية لها بُعدها العقدي المتمثل في رمزية القدس، ومكانة المسجد الأقصى؛ ولذا، كانت هناك مساعٍ إلى تغييب العقول العربية إن لم يكن غسلها، وهذا دور التطبيع الثقافي، بكل مفاهيمه وآلياته لاختراق الوعي الجمعي العربي.
احتلال العقل
لقد ارتكز التطبيع الثقافي على إستراتيجية «احتلال العقل» علمياً وفكرياً؛ بهدف الهيمنة على العقل العربي معرفياً، وترسيخ الوجود «الإسرائيلي» في وعي الأجيال الجديدة كحقيقة قائمة، وتقديمها كنموذج عالي المستوى في التقدم؛ ولذا كان أول الأعمال التي قام بها الكيان الصهيوني في أعقاب «كامب ديفيد» هو تأسيس «المركز الأكاديمي الإسرائيلي» في القاهرة عام 1982م، الذي أجرى بحوثاً وجمع معلومات عن طبيعة الشعب المصري وشرائحه ومكوناته وأبرز قضاياه ومشكلاته(8)، ليعرف كيف يمكن اختراق العمل الجمعي المصري، ومن ورائه العقول العربية، وكانت الفنون المرئية الوسيلة المثلى للاختراق، فما أكثر الرسائل الظاهرة والمبطنة التي يمكن دسُّها في ثنايا العمل المرئي، ولن ينتبه إليها المتلقي العربي العادي، بل ستستقر تدريجياً في وعيه، ما دام لم يجد من ينبهه إلى خطورتها من جهة، ولأنها ستتتابع عليه في أعمال فنية أخرى من جهة أخرى.
وقد جاءت الطروحات المحورية في جلّ الفنون المرئية المتصهينة بتقديم صورة اليهودي بشكل مطلق على أنه نموذج في الإبداع والرقي والتقدم، مع الدعوة إلى التعايش، وأن اليهود كانوا يوماً جزءاً من المجتمع العربي عندما عاشوا فيه.
وقد ظهر هذا مبكراً مع فيلم «المهاجر» للمخرج يوسف شاهين عام 1994م، الذي منعته الرقابة بمصر في أول أسابيع عرضه، قبل أن يعود للعرض بحكم قضائي، وكانت حجة المنع أن الفيلم يقدم تصوراً مختلفاً لقصة يوسف عليه السلام، من خلال شخصية «رام» الشاب الذي كان يعيش مع والده العجوز في قبيلة فقيرة على أطراف مصر في بادية الشام، فيقرر الهجرة إلى مصر لتعلم فنون الزراعة، ويصحبه إخوته السبعة في رحلته، ولكنهم يغدرون به، فيوثقونه بالحبال ويلقون به في مركب متجهة إلى مصر ظانين أنهم تخلصوا منه إلى الأبد، لكن «رام» يصل إلى مصر ويتعلم الزراعة، ويلتقي مع «أميهار» قائد الجيوش، وزوجته «سيمهيت» التي تهيم به حباً، إلا أنه يرفض العلاقة معها، وينسحب ليعيش في الأرض التي وهبه إياها «أميهار» عند حدود مصر لزراعتها، وهناك يقع في حب فتاة مصرية جميلة توافق على الزواج منه.
بالفعل تشابه الأحداث قصة يوسف عليه السلام، ولكنها تظل قصة متخيلة؛ بهدف إبراز صورة مشرقة لبني إسرائيل الذين يعيشون في منطقة طناي، التي هي فلسطين حالياً، وتظهرهم أنهم شعب متميز وإن كان بدوياً فقيراً، فـ «رام» شاب ذكي وسيم طموح ساعٍ إلى التعلم، في حين تظهر صورة المصريين في الفيلم يعانون من الجهل والتخلف والتعصب، وحاكمهم فرعون مهووس بالسلطة، وقائد الجيوش عاجز جنسياً، وزوجته شبقة للرجال، وقد ملّت من حياة المصريين، وكهنتهم، لذا سقطت في حب «رام»، وتطوق إلى الفرار معه، لتحيا حياة جديدة ومختلفة(9).
وتتابعت الأعمال الفنية التي تشيد بذكاء اليهود، وتقدمهم في صورة تستوجب التعاطف معهم، خاصة الجالية اليهودية التي عاشت في مصر، ففي مسرحية «سكة السلامة» عام 2000م، للكاتب سعد الدين وهبة، ومن إخراج محمد صبحي وبطولته، يتعطل الأوتوبيس بالركاب في الصحراء، وتدور حوارات مطولة بينهم؛ كاشفة عن طبيعة شخصياتهم ومهنهم، وينبري أحد الركاب، مشيداً بالطائفة اليهودية المصرية المخلصة، التي أقامت الشركات والمصانع، وتم طردهم ومصادرة أموالهم، وأن هناك يهوداً شرفاء ومخلصين كثيرين، ويرتبطون بالحب لهذه الأرض.
ونفس الأمر يتكرر في مسرحية «لعبة الست» عام 2000م، للفنان محمد صبحي، وهي قصة فيلم قديم لنجيب الريحاني وقد حمل الاسم نفسه أيضاً، ويواصل فيها صبحي تقديم صورة راقية لليهودي، من خلال شخصية صاحب الشركة إيزاك عنبر التي تقدم بطل المسرحية حسن أبو طبق للعمل فيها؛ فيقبله إيزاك على الفور، فقد وجد فيه النزاهة ولأنه جاء بلا واسطة، ثم تتطور الأحداث، ويتفاجأ حسن بتنازل إيزاك له عن الشركة، بعدما قرر الهجرة من مصر، تقديراً لأمانة حسن وشهامته، صورة اليهودي هنا كانت مثالية، فهو رجل أعمال نشط وناجح وذكي ولمّاح يقدر العاملين المخلصين معه، ولا يعرف تفرقة ولا يخضع للضغوط أو الواسطة.
وفي المسلسل المصري «حارة اليهود» عام 2015م، نجد معزوفة مختلفة، حيث يصوّر حارة اليهود، التي يعيش فيها المسلمون والأقباط واليهود في تناغم وبلا أي تمييز، وإن شابته بعض المشكلات الحياتية، ولكن حرب عام 1948م تعكّر صفو هذه العلاقة، وتحولها إلى عداء، ويبدو التعايش كاملاً من خلال شخصية «ليلى» الفتاة اليهودية المثقفة والعاملة في محلات «شيكورل» (اليهودية)، وقد أحبت شخصية «علي» الضابط المصري المسلم الذي يحارب على الجبهة، وتتطور الأحداث، لتكون المحصلة إظهار اليهود بوصفهم جزءاً لا يتجزأ من الشعب المصري، وأن أحقاد السياسة سبب في تفريقهم.
مسلسل «أم هارون»
أما المسلسل الخليجي «أم هارون» عام 2020م، فقد حمل اسم الطبيبة اليهودية التي عاشت مع أسرتها في الكويت وعشقت هذه الأرض، خلال سنوات الأربعينيات من القرن العشرين، وعانت من الاضطهاد والتمييز ضدها بسبب نكبة فلسطين، وكانت تلك هي الصورة التي روّجتها «إسرائيل» لليهود العرب، لتحفزهم على الهجرة إليها، فالعرب متعصبون جهلاء، أما دولة «إسرائيل» فهي واحة للحرية والمساواة، دون أدنى إشارة إلى ما فعلوه من اضطهاد وطرد ومذابح ضد الفلسطينيين.
والأمر نفسه نجده في المسلسل الخليجي الكوميدي «مخرج 7» عام 2020م، الذي يتناول حياة عائلة موظف حكومي من الطبقة المتوسطة، يعاني من مشكلات الحياة اليومية، ويناقش التحولات التي شهدها المجتمع السعودي خلال السنوات الأخيرة وتأثيرها على العائلة وانشغالات المواطن.
وقد أشار المسلسل في ثناياه إلى التطبيع مع «إسرائيل» بوصفه أمراً عادياً لا ضرر منه، شأنه شأن الحديث عن الأفلام وكرة القدم، وأن المواطن البسيط ليس معنياً بأخذ موقف من الصراع في الشرق الأوسط، مثلما ورد في حوار بين فتاة وعامل توصيل الطلبات، كما تعرض في بعض المواقف الحوارية إلى أن الفلسطيني لا يقدِّر وقفة المملكة والعرب معه، ويسبهم ليل نهار أكثر من «الإسرائيليين»، وأن كل الحروب كانت من أجل الفلسطينيين، وعندما صار لهم سلطة، فهم يدفعون تكاليفها ورواتب موظفيها؛ وهو ما يعني إعادة النظر في الموقف من التعامل مع السلطة، والقضية الفلسطينية بأكملها، وأنها ليست قضية العرب المركزية. (جدير بالذكر أن قناة «إم بي سي» منتجة المسلسل، قررت الاكتفاء بعشرين حلقة، وعدم استكمال إنتاجه ولا عرضه؛ نظراً للجدل الذي تعرّضت له).
ونؤكد ختاماً أن مختلف الأنشطة والفعاليات والفنون التي روّجت للتطبيع لها وجهان؛ وجه سلبي يتمثل في محاولة إعادة تمركز الكيان الصهيوني واليهود في الوعي الجمعي العربي، ووجه إيجابي يتمثل في انتفاضة الوعي العربي الفردي والجمعي ضدها، ورفضه مختلف أشكال الترويج أو الترسيخ؛ فالقضية الفلسطينية ليست قضية احتلال أرض والسيطرة على شعب فقط، وإنما هي قضية عقدية في الأساس، فالمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وإليه تُشَدُّ الرحال، ولا يمكن لأي مسلم أن يقبل أن يكون المسجد تحت هيمنة الصهاينة، بدعوى السلام والاستقرار، ولذا نرى أن كل محاولات التطبيع تنتج رفضاً عاماً، وتعيد تمركز القضية الفلسطينية في الأفئدة والألباب، على أمل أن يأتي يوم تتغير فيه موازين القوى، وتعود الأرض لأصحابها، وترفرف راية الإسلام على مآذن قدسها.
___________________________________________________
(1) التطبيع مع اليهود، حسين عبيدات، بحث مقدم في المؤتمر العام العاشر للصحفيين العرب، القاهرة، 2004.
(2) انظر تفصيلاً: الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، روجيه جارودي، ترجمة: محمد هشام، دار الشروق، ط4، 2002، ص70 وما بعدها.
(3) المثقفون العرب وإسرائيل، د. جلال أمين، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998، ص179، 180.
(4) المرجع السابق، ص81.
(5) صفقة قاصرة أم سلام مراوغ، د. رضا شحاتة، مجلة شؤون عربية، جامعة الدول العربية، القاهرة، ع179، خريف 2019، ص7.
(6) موسوعة اليهود والصهيونية، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1999، ج7، ص14.
(7) المرجع السابق، ص21.
(8) احتلال العقل: التطبيع، الحصار، صراع الغد، محمد الجزائري، دار الوراق للنشر، لندن، 1998، ص34، 35.
(9) «المثقفون العرب وإسرائيل»، ص191.