علق أكثر من 100 طفل حديثي الولادة من أمهات بديلات في أوكرانيا، إذ لم يتمكن أهلوهم من السفر لتسلمهم بسبب إغلاق الحدود منذ مارس الماضي؛ جراء انتشار وباء فيروس «كورونا»، والعدد سيزيد مع تمديد الإغلاق، وشاهد الناس على شاشات التلفاز 51 مولوداً بريئاً مرصوصين في مهدهم، بلا أُمٍّ أو أب وقد وضعوا في فندق بمدينة كييف تملكه إحدى العيادات.
فما هي حكاية استئجار الأرحام، تلك البدعة التي انتشرت في عالم اليوم المادي الذي لا يعتد بخُلق أو عرف أو حق للطفل؟ عصم الله المسلمين من ذلك.
أثارني الفيديو الذي يعتبر كأنه دعاية لهذه العيادة عن تقنيات تأجير الأرحام وتقديمها على أنها «سلع عالية الجودة»، لكنه يعني أيضاً أن الدولة لا تتخذ جميع الإجراءات المناسبة لحماية حقوق الأطفال وكرامتهم، حيث أصبحت أوكرانيا بذلك دولة «مانحة للأطفال» للأجانب، ولا تستطيع السيطرة على مصيرهم.
وتتضمن عملية استئجار الرحم دفع مبلغ كبير لمؤسسات تعطي جزءاً منها لأُم بديلة ليستقر الطفل في رحمها حتى موعد الولادة، وقد تأتي البويضة من الأم البديلة أو من أمه البيولوجية أو من متبرعة، وقد تأتي النطفة من أبيه البيولوجي أو من متبرع بالنطفة، وتلقح البويضة أحياناً في أنابيب معملية وتزرع في رحم الأم البديلة، بحيث يحمل الطفل المولود عبر هذه العملية الصفات الوراثية لأحد الأبوين أو أكثر، وتمثل التقنيات أهمية كبيرة للمثليين ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسياً، الذين يخططون لتكوين أسرة، وهذه الطريقة قد يلجأ إليها أيضاً حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها، ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفهاً(1).
الجسد سلعة!
أصبحت أوكرانيا واحدة من مراكز استئجار الأرحام بسبب قوانينها الفضفاضة، وأثيرت انتقادات عديدة، بسبب استغلال الشركات للأمهات البديلات، وقد عارض كثيرون مسألة التربح من تأجير الأرحام بسبب التعامل مع جسد المرأة على أنه سلعة أو «مفرخة» بشرية للأطفال، ويتساءل مناصرو المرأة وعلماء أخلاقيات البيولوجيا ما إذا كان تأجير الأرحام يساعد بالفعل في تمكين المرأة لاتخاذ قرارات بشأن أجسادهن أم يحط من شأن النساء الفقيرات ويحيلهن إلى أرحام للإيجار؟
وقد دعت مفوضة البرلمان الأوكراني لحقوق الإنسان إلى التكاتف من أجل التحسين العاجل للتشريعات المتعلقة باستخدام تكنولوجيات الإنجاب وتأجير الأرحام للأجانب، ومنع «التصدير» غير المنضبط للأطفال إلى الخارج، وأنه يجب عدم الاتجار بالأطفال في أوكرانيا، وقال مفوض الرئيس الأوكراني لحقوق الطفل: إن تأجير الأرحام في أوكرانيا غير منظم وينتهك حقوق الأطفال، وأضاف أن ولادة طفل بعيد عن الأم أمر غير طبيعي، وبهذه الطريقة؛ تصبح أوكرانيا ببساطة متجراً دولياً للأطفال عبر الإنترنت، ولا نعرف العدد الحقيقي لهؤلاء الأطفال الذين تزودهم أوكرانيا بهذه الطريقة، مشيراً إلى أن تأجير الأرحام هو استغلال المرأة من أجل كسب الدخل من قبل الشركات الخاصة وتلبية احتياجات البالغين وينتهك حقوق الطفل.
وأشار مفوض حقوق الطفل إلى أنه في عام 1991م، ذكر ممثلو غرفة برلمانية ألمانية أن تأجير الأرحام يتعارض مع حقوق الطفل، وعلى وجه الخصوص إذا لم تؤخذ العلاقة بين الطفل والأم التي أنجبته في الاعتبار، وإخراج الطفل من الأم البيولوجية يمكن أن يكون له عواقب سلبية، وقال: «أنا أعارض رفضاً قاطعاً تأجير الأرحام التجاري، إنه تجسيد للطفل ووضعه كسلعة»(2).
في العام الماضي، تجدد النقاش حول هذه الظاهرة بعد اتهام امرأة دنماركية بالنصب والاحتيال على أكثر من أسرة، دفعت لها المال للحصول على طفل من المتوقع أن يولد في قبرص، جمعت المرأة المال من أُسر غير قادرة على الإنجاب، ونجحت واحدة من عمليات التخصيب، لكنّها كذبت على الزوجَين المعنيَّين قائلة: إن الحمل لم ينجح، ليتبيّن لاحقاً أنها وضعت توأمَين وقرّرت الاحتفاظ بهما، فوجّهت الشرطة الدنماركية اتهامات لها بـ «تأجير رحمها في مقابل المال، بالإضافة إلى النصب على أكثر من زوجَين محرومين من الإنجاب»، هي أنكرت، غير أنّ فحوصات الحمض النووي في الدنمارك أثبتت أنّ الزوجَين المعنيَّين هما والدا التوأمَين، على الرغم من ذلك؛ ما زال الصغيران مع المرأة التي أنجبتهما، في حين أنّ الوالدَين يعانيان مع القانون(3).
رأي الشرع
قالت دار الإفتاء المصرية: إن تأجير الأرحام من أجل الولادة حرام شرعاً؛ لما فيه من مفاسد تتلخص في إفساد معنى الأمومة كما فطرها الله وعرفها الناس، وصَبغها بالصبغة التجارية، مما يناقض معنى الأمومة التي عظّمتها الشرائعُ وناطت بها أحكام وحقوق عديدة، ونَوَّه بها الحكماء، وتَغَنَّى بها الأدباء، وهذا المعنى وذلك التعظيم لا يكون من مجرد بويضة أفرزها مبيض امرأة ولَقَّحَها حيوان منوي من رجل، إنما تتكون من شيء آخر بعد ذلك مثل الوَحَم والغثيان والوهن في مدة الحمل، والتوتر والقلق والطلق عند الولادة، والضعف والهبوط والتعب بعد الولادة، فهذه الصحبة الطويلة هي التي تُوَلِّد الأمومة.
كما أن تغطية الأمومة بهذا الحاجز الضبابي يؤدي إلى تنازع الولاء عند الطفل بعد الإنجاب؛ هل سيكون ولاؤه لصاحبة البويضة، أو للتي حملته وأرضعته من ثدييها؟ مما قد يعرضه لهزة نفسية عنيفة؛ إذ إنه لن يعرف إلى من ينتمي بالضبط؛ إلى أمه الأولى أم أمه الثانية؟ ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عام 1402هـ بتحريم هذا الأسلوب من أساليب التلقيح، كما صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره الثالث عام 1407هـ بتحريمه أيضاً(4).
فالرحم تابع لبضع المرأة، والبضع لا يحل إلا بعقد شرعي كامل الشروط والأركان، فالرحم إذن وقف على الزوج العاقد على المرأة عقداً صحيحاً، ولا يحل لغيره أن يشغله بحمل دخيل، أما إذا كانت المؤجرة لرحمها غير ذات الزوج فإنها تكون قد أباحت بضعها ورحمها لرجل أجنبي لم تحل له ولم يحل لها، وهذا وإن لم يكن زنا كاملاً فهو حرام قطعاً لتمكين الرجل الأجنبي عنها في وضع مائه التناسلي فيه(5).
توكل وبدائل
قال الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}(الشورى)، يقول السعدي: «هذه الآية فيها الإخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، حتى إن تدبيره تعالى، من عمومه، أنه يتناول المخلوقة عن الأسباب التي يباشرها العباد، فإن النكاح من الأسباب لولادة الأولاد، فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء، فمن الخلق من يهب له إناثاً، ومنهم من يهب له ذكوراً، ومنهم من يزوّجه؛ أي: يجمع له ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يجعله عقيماً لا يولد له»(6).
وبعد، فإن حلم الأبوة والأمومة حلم يأخذ بقلوب وعقول المحرومين؛ ما قد يدفعهم إلى عمل أي شيء غير أخلاقي أو شرعي، هذا ما لم نتوقعه ممن أسلم وجهه لله وقرأ الآية السابقة، على هؤلاء أن يبحثوا عن حلول طبية شرعية، وأن يتحلوا بالتوكل على الله والصبر عسى أن يجعل لهم مخرجاً، والطب في هذا المجال في تطور مستمر، ولعل البديل قد يتحقق بالتبني الإسلامي (مع احتفاظ الطفل بنسبه واسم أبيه)، أو كفالة يتيم يضمونه إليهم، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من ضمَّ يتيماً بين أبوَينِ مسلمَين إلى طعامِه وشرابِه حتى يستغنيَ عنه؛ وجبَتْ له الجنَّةُ..» (صحيح الترغيب، رقم 1895).
________________________________________________
(1) استئجار الأرحام: شركات تساعد موظفيها وتتكفل بالنفقات
https://www.bbc.com/arabic/magazine-49734858
(2) مفوض الرئيس الأوكراني لحقوق الطفل يطالب بحظر تأجير الأرحام في أوكرانيا
http://ukrpress.net/node/12219
(3) أرحام للإيجار.. جدال أخلاقي وقانوني في الدنمارك
https://www.alaraby.co.uk/society/2019/2/18
(4) دار الإفتاء المصرية فتوى: تأجير الأرحام رقم (722) بتاريخ 11 أغسطس 2019
https://www.dar-alifta.org/
(5) استئجار الأرحام حرام، عبدالعظيم المطعني
https://islamqa.info/ar/answers
(6) تفسير السعدي «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان»، مؤسسة الرسالة 2000م.