لا أدري ما الذي جعلني أتذكر تلك السمكة الكبيرة التي اصطادها أبي من النهر الذي كان يرتفع ماؤه أيام الفيضان، رغم أن ذلك حدث منذ زمن بعيد، كانت تلك أيام مضت قصت حكايتها جدتي في ليالي الشتاء الطويلة التي كنا نلتف حولها فيها ونتعارك من يجلس بمقربة منها!
تلك السمكة -على ما يبدو- ذات ذيل أخضر وزعنفة ملونة؛ تتمتم بشفتيها، كل واحد منا حاول أن يلاعبها أو يمرر يده عليها؛ إنه الولع بالكائنات الغريبة.
نهرتنا جدتي وتفرست فيها ثم قالت: “هذه سمكة مباركة تذكر الله بلسان لا تعرفونه، كانت نملة سيدنا سليمان تفعل مثل هذا، وتدعوه أن يفك سجنها.”
ساعتها سألتها:
-هل نمتلك سجنا؟
ضحكت وأكملت حديثها: يوم أن تكبر ستجد حبلا يطوق رقبتك.
يعدون خطواتك، قد لا تستطيع أن تتنفس.
– ثم قالت: لا يمكن أن تبقى هذه المباركة هنا، يبدو أنها وجدت شرا يحيط بها، الجدات يمتلكن الحكمة يتوراثنها عن الراحلين.
ومؤكد أن في الماء حياة لها.
أمرت أبي أن يعود سريعا إلى النهر ويلقي بها فيه.
حين جاء الليل أعاذتني بالله من شر شياطين البر والبحر.
أخبرنا أبي أنه حين ألقى بها في النهر تراقصت وأخذت تحرك ذيلها في تودد ظاهر.
ترفقت بنا الجدة وأخبرتنا بأنها في يوم ما سترد الجميل لأحدنا.
ساعتها تخيلت أن هذه ابنة ملك الجن، ستهبني ذهبا ومرجانا، غير أن هذا الحلم تلاشى بعد أن ماتت الجدة وتركت في البيت حزنا لا يفارقنا.
شغلتني هموم لقمة العيش، امتهنت أعمالا كثيرة؛ بعت الصحف والمجلات، تقافزت من قطارات الدرجة الثالثة مثل قرد إفريقي، أحمل علبة من الورق أضع فيها الحلوى وأقراص الخبز المحشو.
يتساقط المطر فأهرب إلى عربة قطار معطل على رصيف الانتظار.
رجال ونساء يمضون ليلهم هنا، تتناهى إلى سمعي كلمات وقحة، في هذا المكان تسكن الشياطين.
يضج الليل بريحه التي تلطم وجهي، يتملكني برد الشتاء، جسدي العاري الذي تلتف حوله ثياب ممزقة، حذاء تتحرك فيه أصابعي، شعري الملبد من وسخ الأرصفة.
أترنح مثل عود القش فلا أحد يهتم بهذا المتسول.
يهدني التعب فأرتمي على مقعد خشبي تكاد مساميره تستقر في جسدي، يقتلني التعب من حركة وجري وراء لقمة عبش ذليلة.
تموء قطة في المقعد المقابل، أخرج لها من علبتي نصف رغيف كنت أحتفظ بها لأخمد صوت معدتي الذي يشبه صافرة قطار عجوز.
تتشمم الشطيرة ومن ثم تموء وتحرك ذيلها فرحة بها.
تأخذني سنة من النوم، تمثل لي السمكة التي اصطادها أبي منذ سنوات عدة، تتحول إلى فتاة جميلة يتدلى شعرها حتى وسط ظهرها، يلتف حول رقبتها عقد من الياقوت الأحمر، تمد يدها مرحبة بي، أحاول الهرب منها، تسكب فوق جسدي ماء المطر، عدت إنسانا لا أعرفه، تمتلئ علبة الحلوى بقطع معدنية صفراء، تتمتم بكلمات غريبة.
يقطع صمت الليل صوت صافرة القطار المتأخر عن موعده ثلاث ساعات.
دائما ما يقول محصل التذاكر: في هذه البلاد كل شيء منضبط إلا قطارات الدرجة الثالثة، أخذت أردد هذه الجملة.
كانت تميمة الحظ بالنسبة لي، يبتاع مني الركاب لأنني صرت صاحب لسان طويل؛ جذبني رجل الشرطة الذي يعرفه الجميع لكنه يدعي أنه سري؛ معطفه الأسود يكاد يفضحه، نظرات عينيه الزائغة، جسده المكتنز وبطنه المترهلة.
أردد جملا كنت أطالعها حين عملت بائع صحف، كانت العناوين باللون الأحمر، الرجل السري يمسك بي، فررت من قبضته؛ أخبرتكم أنني أمتلك مهارة قرد إفريقي.
يعلو صوتي: كل شيء منضبط في هذه البلاد حتى قبضة يد الرجل السري؛ يلاحقني بالسباب؛ فيهزأ به كل ركاب قطارات الدرجة الثالثة.
على أية حال تنبهت فإذا بالقطة التي كانت هنا قد ارتحلت، لملمت أشيائي المبعثرة، تمنيت لو أن قطعة معدنية استقرت في علبة الحلوى.
كاد الرجل ذو المعطف الأسود أن يمسك بي، أجري ناحية القطار الذي يغادر المحطة، تمد فتاة تشبه السمكة ذات الذيل الملون يديها، أصعد القطار لكن علبة الحلوى تناثرت أشياؤها مثل غبار ذرته الريح!