هذه الحلقات المتتابعة في أفكارها هي مجرد مُمَهدَات مقدمة إلى الحركة الإسلامية في بنائها الجديد المنتظر، فأغلب أبناء الحركة والمتابعين لها يؤكدون ضرورة تجديد البناء، والتجديد في فكرنا الإسلامي وتراثنا يرتبط بتغيير الأفكار لا بتغيير الهياكل أو الشكل –وإن كان ذلك مطلوبًا في وقت ما- ومن ثم جاءت هذه المُمَهِدَات المعرفية التي هي عبارة عن استبطان ذاتي لأحد أبناء هذه الحركة الذي عاش فيها عن قرب تارة، وبُعد تارة أخرى، ما يقرب من ربع قرب، واهتم بأمرها وشأنها وما زال، يؤلمه ألمها، ويحزنه ما صارت فيه وإليه؛ لذا فهذه الرؤية أو المُمَهدَات المعرفية تعتبر رؤية للإصلاح والتجديد من داخل الحركة وليست من خارجها.
تضمين علوم الفلسفة ومناهج البحث والعلوم الإنسانية
نعتبر أن الحركة الإسلامية مشروع تربوي نهضوي كبير لتأسيس حضاري منشود، وبالتالي فإن غايتها الأساسية حضارية وليست سياسية بالمفهوم الضيق للكلمة الأخيرة، والمهمة الحضارية تعني أول ما تعني ببناء شخصية حضارية قادرة على حمل الرسالة وأداء أمانة التكليف، وهذا لن يقوم به البرنامج التربوي القديم للحركة الذي اقتصر على العلوم الشرعية وبعض البرامج التدريبية الإدارية أو التربوية التقليدية.
والمتطلب التربوي الجديد هنا هو ضرورة إدماج علوم الفلسفة ومناهج البحث والعلوم الإنسانية في برامج هذه الحركة بما يتيح لأبنائها بناء عقلياً وفكرياً راشداً لبنائها الذين يشكلون العقل الجمعي للأمة، وهذه العلوم تفيد في المعرفة المعمقة بالإنسان، وتعليم التفكير وطرقه كالاستقراء والاستنباط.
إن هذه العلوم مهمتها الأساسية بناء الإنسان، وقد شارك الغرب المعاصر في بناء المناهج وتطوير العلوم، وهنا علينا أن نقوم بعملية الانتقاء الراشد بعد الاطلاع الكامل، وهناك جهود حالية وسابقة في هذا المضمار يمكن أن تستعين بها الحركة الإسلامية في إعداد هذا البرنامج التربوي الجديد.
إعادة الاعتبار للعلم
هذا المطلب ليس خيارًا في الحقيقة، وإنما ضرورة إنقاذية حالية وضرورة لإستراتيجية طويلة المدى، فاعتماد الحركة على الخبرات الشخصية والتنظيمية لم تكفها ولم تسعفها في أزماتها المتكررة طوال هذا التاريخ، والفكرة القرآنية واضحة وصريحة في هذا المجال من أول كلمة “اقْرَأْ” التي أرسى بها القرآن المنهج العلمي في مسيرة الرسالة الإنسانية الهادية والخاتمة كبديل للخرافة والشعوذة والأوهام والسحر والتنجيم والتسلط الذي كان يسود المعرفة الإنسانية آنذاك عند نزول الرسالة.
هذا النهج العلمي الذي تبنته دعوة الوحي الجديد يعتمد على الأخذ بالأسباب واكتشاف السنن التي تحكم ليس فقط حركة الأفلاك والطبيعة (القوانين الطبيعية)، وإنما أيضًا تلك التي تحكم حركة الإنسان والمجتمعات والحضارات {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:23]، {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:85]، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:89]، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:92].
تدشين مؤسسات فكرية وبحثية في قلب الحضارة الغربية
أجبرت الظروف السياسية في الوطن العربي لا سيما في الفترة الأخيرة هجرة كبيرة لأبناء الحركة الإسلامية إلى الغرب، ويقوم عدد من أبناء الحركة بجهود سياسية وحقوقية ملموسة، ويبدو أن الأوضاع ستظل فترات طويلة على هذا النحو الذي نعيشه، ويعتبر هؤلاء المهاجرون أن حق الحركة عليهم هو الواجب السياسي والحقوقي، رغم أنه لا يؤثر في الواقع كثيرًا -وهذا ليس تقليلًا من الجهود التي يبذلها البعض- ولكني أشير هنا إلى واجب آخر وهو الواجب الفكري وهو الأعمق أثرًا في حالتنا المعاصرة، فبينما يتراجع وجود الحركة الإسلامية في أوطانها، فلا بد أن يواجِه ذلك التراجع تمدد في الغرب، وهذا التمدد ينبغي أن يعتمد على بناء مؤسسات فكرية وبحثية ودور نشر، وتتحدد أجندة هذه المؤسسات من خلال مجموعات فكرية وباحثين هم موجودون بالفعل في الغرب.
إن النجاحات الفردية التي ينصب أغلب جهود أبناء الحركة في الغرب عليها ينبغي أن تصب جميعًا في عمل فكري إستراتيجي إسلامي يخدم المشروع الحضاري الذي تتبناه الحركة ودفعت من دماء أبنائها وحرياتهم بعض ثمنه، ولنا في ذلك تجربتان مهمتان؛ الأولى للعلامة جمال الدين عطية (1928-2017م) الذي أسس مدرسة ومؤسسة “المسلم المعاصر” عام 1974م التي مثلت نقلة فكرية كبيرة للمشروع الإسلامي، بعد خروجه من مصر عقب محنة عام 1954م، ثم مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1977م، الذي قام عليه إسماعيل الفاروقي ورفاقه، ووضعوا أساساً لهذه المؤسسة في فرجينيا، التي مثلت أيضاً نقلة معرفية وحضارية كبيرة، وأصبح له وجود في أكثر من 20 دولة بخمس قارات اليوم، وجهوده واضحة في خدمة المشروع الإسلامي، وهاتان التجربتان قائمتان، ويمكن دراستهما والبناء عليهما، وفقًا للظروف والمتطلبات المعاصرة للحركة الإسلامية وإمكاناتها في الغرب.