في السادس عشر من أيلول/ سبتمبر من العام 1931، قبل أن يتدلى جسده المنهك الذي استوطنته الحمى من حبل المشنقة، ألقى المجاهد الليبي عمر المختار بكلماته الخالدة خلال لقائه بالفريق أول “رودولفو غراتسياني”: نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي.
أصبحت هذه الجملة بمثابة نبوءة، سواء كانت بالفعل كلمات المجاهد عمر المختار أو مجرد حوار درامي نطق به الممثل الأمريكي “أنطوني كوين” خلال تجسيده شخصية المختار في فيلم “أسد الصحراء” للمخرج السوري مصطفى العقاد، فكانت بالفعل نارا اتقدت بها الأرواح في العالم العربي طيلة قرابة القرن، فألهمت الثوار في المنطقة العربية وخارجها.
منطقة الجبل الأخضر.. مسقط رأس شيخ المجاهدين
لا يعرف تاريخ مولد شيخ المجاهدين عمر المختار بالضبط، فقيل في العام 1862 وقيل 1858، لكن ذلك التاريخ لم يكن مهما في تلك الفترة، فقد كان من الممكن أن يكون الطفل عمر شبيها بعشرات أطفال منطقة الجبل الأخضر أو ربما بشقيقه لولا وصية والده قبل وفاته بأن يكفله عمه الذي درسه وعلمه، وأدخله “مدرسة القرآن الكريم” بالزاوية.
التحق عمر المختار بعد ذلك بمعهد الجغبوب الذي درس فيه ثماني سنوات، وهو أحد منارات العلم في تلك الفترة وملتقيات العلماء والأدباء والفقهاء، فنال استحسان شيوخه الذين كانوا يشرفون على تعليم المتفوقين وإعدادهم للدعوة في جميع القبائل في ليبيا وفي أفريقيا، لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الدين وتعاليمه.
كانت الأعوام الثمانية التي قضاها في معهد الجغبوب، تسطّر ببطئ مصير الشيخ عمر المختار، لتحول طريقه من الدعوة وفض النزاعات ودرء الخلافات إلى حمل البنادق ووضع تكتيكات لاصطياد رؤوس المحتلين الإيطاليين، فكانت البداية بقربه من شيوخ الحركة السنوسية آنذاك بسبب سمعته الحسنة.
قبيلة العبيد المتمردة.. لا يخمد التمرد إلا قاتل الأسود
توطدت علاقة عمر المختار بالحركة السنوسية، فكانت بداية المنعرج تلوح حين قرر محمد المهدي السنوسي -وهو ثاني زعماء السنوسية- اصطحاب عمر المختار من الجغبوب إلى منطقة الكفرة في الجنوب الشرقي للصحراء الليبية، وكان قد تجاوز حينها الثلاثين عاما بقليل، وبعد تلك الرحلة عينه السنوسي شيخا لزاوية عين كلك في منطقة قرو غرب السودان.
استطاع المجاهد عمر المختار نحت صورة ناصعة له لدى كل عشائر ليبيا، حتى أن حكايات تقرب إلى الأساطير قد حيكت حول سيرته، فروي أنه واجه أسدا في الصحراء وقتله وسلخ جلده ثم علقه، وهي رواية يستحضرها آخر أبنائه محمد عمر المختار نقلا عن عمه، وعززت تلك الصورة ثقة المهدي السنوسي به، الذي عينه في العام 1897 شيخا لبلدة زاوية القصور في منطقة الجبل الأخضر.
كان السنوسي واثقا من تمكن عمر المختار من حسن إدارتها وترويض سكانها المنتمين إلى قبيلة تسمى قبيلة العبيد التي اشتهرت بتمرد أبنائها، ثم تمكن المختار من كسب لقب “سيدي عمر” وهو لقب يحتكره السنوسيون فحسب في تلك الفترة، حينها كان لا بد للشيخ عمر المختار أن يتحول من الدعوة إلى القيادة العسكرية بعد أن أصبح مسؤولا عن إدارة مناطق في ليبيا من جهة، وحين أصبحت الحركة السنوسية هدفا لفرنسا التي استعمرت التشاد في العام 1900 من جهة أخرى.
ذراع الحركة السنوسية الأيمن.. بطل السياسة والحرب
دخل عمر المختار ساحة الحرب لأول مرة بعد دعوته لقيادة كتائب الحركة السنوسية فشارك في المعارك ضد القوات الفرنسية في التشاد عن طريق التجييش والدعوة، وبدا بالفعل أنه سلك طريق الجهاد الذي سينتهي حين يلف حبل المشنقة على رقبته، أو فلنقل إنه طريق لم ينته بل ظلت سيرته تضيئه ليسلكه آخرون بعده.
فقد أصبح الشيخ عمر المختار الذراع الأيمن والقائد الوفي والأمين للحركة السنوسية، فكانت تستنجد به في الإدارة والتسيير عندما عينته للمرة الثانية شيخا لقرية زاوية القصور المتمردة، وهو منصب تقلده لمدة تقارب 8 سنوات، وحينها لم يكتفِ بتسيير شؤون البلدة المتمردة فحسب، بل قاتل أيضا القوات البريطانية في الحدود الليبية المصرية.
حين شارك عمر المختار في المعارك ضد الفرنسيين والبريطانيين لم تكن تلك المعارك قد وقعت بالفعل في الأراضي الليبية، ولم يكن صيته قد تجاوز الحدود التي حارب فيها، لكن عندما كان يسير سيرا بطيئا نحو شيخوخته، كانت خطاه تسرع نحو تخليد اسمه وهو في الخمسين من عمره، حين قامت القوات الإيطالية بالإنزال في الأراضي الليبية في تشرين الأول من العام 1911، ومنذ ذلك التاريخ سكن المعلم والواعظ ساحات المعارك إلى الأبد، وخاض حروبا ضد الاستعمار الإيطالي دامت قرابة عشرين عاما انتهت بإعدامه.
خرّيت المسالك الصحراوية.. كابوس أقض مضاجع الإيطاليين والإنجليز
استفاد الشيخ عمر المختار من سنوات قضاها متنقلا بين منطقة الجغبوب وصولا إلى الكفرة في جنوب الصحراء الليبية، وخبر الطريق من برقة إلى مصر والسودان، فعرف المسالك الصحراوية واستفاد من تنقله بين القبائل ليكسب سمعة طيبة لديها جعلتها تستجيب له حين استعد للمعارك ضد المستعمر الإيطالي، فكوّن كتائب من المقاتلين تحت إمرته، وقاد عمر المختار القتال ضد المستعمر الإيطالي مدة عامين إلى حين قدوم أحمد الشريف في العام 1913، ثم محمد إدريس السنوسي، لكن دوره كان حاسما في المعارك وظل في موقع قيادي.
في تلك السنة اشتدت ذروة الصراع مع الاستعمار الإيطالي، ونشبت معارك في منطقة درنة أدت إلى مقتل عشرات الجنود الإيطاليين وجرح المئات منهم رغم ضعف المقاومة في الفترة الفاصلة بين العامين 1913 و1915 بسبب الجفاف الذي ضرب ليبيا في تلك الفترة.
لم يغادر الشيخ عمر المختار ساحات المعارك، بل شارك في غارات على المستعمر البريطاني في مصر قرب الحدود الليبية في العام 1915، ليعود بعد ذلك إلى ليبيا لمعاضدة إدريس السنوسي في المعارك ضد الإيطالييين.
هدنة الأمير إدريس.. محاولات فاشلة لترويض عمر المختار
شتتت الهدنة التي عقدها إدريس السنوسي مع الإيطاليين والبريطانيين المقاومة الليبية التي انقسمت إلى شقين، فالشق الأول رفض الهدنة وواصل المقاومة في مصراتة الليبية تحت قيادة النوري باشا نائب أحمد الشريف السنوسي وممثل الحكومة العثمانية في برقة، أما الشق الثاني فقد بقي وفيا للهدنة، ولكن عمر المختار كسرها ورجع إلى ميدان الحرب بعد رحيل السنوسي إلى مصر في بداية العام 1923 وإثر احتلال طرابلس من قبل الإيطالييين.
في تلك الفترة بدأ رأس المجاهد عمر المختار يظهر أكثر فأكثر، وأصبح وجوده يثير قلق المستعمر الإيطالي، رغم أن مجموع رجاله لم يتجاوز ألف رجل كانوا مسلحين ببنادق خفيفة، ولم يكن له عتاد يذكر مقارنة بقوة عدوه.
كانت أولى الخطوات الإيطالية لترويض عمر المختار قد بدأت بعد سفره إلى مصر، حيث قدم له الإيطاليون عبر وسطائهم عروضا مغرية تحفظ له حياته وتهديه السلطة بشرط قطع علاقته بالأمير إدريس السنوسي، وقدموا له خيار البقاء في مصر لاجئا وضمان راتب ضخم، وحاول الوسطاء التأثير فيه ناصحين إياه بالقبول وترك القتال بسبب تقدمه في السن، لكنه في تلك الأثناء كان يضع الخطط القتالية مع إدريس السنوسي عند زيارته له في مصر.
معركة بئر الغبي.. كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة
كان الشيخ عمر المختار الذراع الأيمن للأمير إدريس السنوسي، حتى أن الأمير أوكل له مهمة قيادة العمل العسكري في ليبيا، مقابل اضطلاع السنوسي بدور سياسي في مصر، وتعاظم وجوده في الأراضي الليبية وفي منطقة الجبل الأخضر بالتحديد، وكبر معه قلق المستعمر الإيطالي وأصبحوا يتعقبونه، خاصة أنه تمكن في معارك مثل معركة بئر الغبي من رد هجوم قاده الإيطاليون ضد المختار ومجموعة صغيرة من المقاتلين الذين كانوا يرافقونه.
بعد وصول الفاشيين إلى الحكم، بدأت إيطاليا باستعراض قوتها وألغت كل الاتفاقات التي عقدتها الحكومات الإيطالية السابقة مع السنوسيين وكان هدفها الأول هو القضاء على الثوار، وكان رأس المجاهد عمر المختار قد نضج وأينع بعد أن تمكن من جمع القبائل الليبية في الجبل الأخضر ولم شمل الثوار من جديد.
كانت إعادة ترتيب صفوف الثوار ضربة قاصمة للإيطاليين الذين راهنوا على انقسام الليبين في تلك الفترة خاصة بعد هجرة إدريس السنوسي إلى مصر، لكن المقاتلين الليبيين أنهكوا القوات الإيطالية بسبب انتهاجهم حرب العصابات، وهو ما اعترف به “إتيليو تروتسي” حاكم برقة في مذكراته “برقة الخضراء” بأنه منذ استلام الجنرال “مومبيلي” القيادة في ليبيا في العام 1926، تركت حرب العصابات التي انتهجها مقاتلو عمر المختار أثرا معنويا سيئا على الجنود الإيطاليين الذين لم يتمكنوا من إيقاف هجمات الثوار الليبيين.
معسكرات الجبل الأخضر.. مصارع الجنود الإيطاليين
تمركزت في الجبل الأخضر أربعة معسكرات للثوار، وتمكن عمر المختار من تنظيم العمل العسكري في صفوف مقاتليه وخلق رتبا عسكرية، ولقب بنائب الوكيل العام وجعل أحد المراكز العسكرية مقرا له.
لقد كانت كل خطوة يقوم بها عمر المختار لتنظيم صفوف الثوار أو لكسب تأييد القبائل التي تولت إمداد مقاتليه بالمؤونة والذخيرة، تزيد من قلق القوات الإيطالية تجاهه، حتى أدركت بالفعل أنه كان قلب المقاومة في الجبل الأخضر.
في العام 1927 دخل الشيخ عمر المختار على مضض في هدنة مع القوات الإيطالية، وذلك تنفيذا لأوامر السنوسي رغم أنه حاول قبل ذلك إقناع بعض القبائل بالعدول عن الهدنة بعد نجاح القوات الإيطالية في احتلال قسم كبير من منطقة فزان، لكن عمر المختار عاد إلى القتال بعد ذلك ضدّ الجيش الإيطالي.
وفي الثامن والعشرين من شهر آذار من العام 1927 أوقع الثوار هزيمة كبيرة بالإيطاليين في معركة الرحيبة، وكان انتصار المقاتلين الليبيين قد أثار غضب الحكومة الإيطالية، فالجيش الإيطالي كان يواجه مقاتلين يفتقرون للخبرة العسكرية والعتاد، لكنه مني بهزائم مخزية، وقررت الحكومة الإيطالية مضاعفة عدد قواتها و مهاجمة عمر المختار، لكن بعد معارك ضارية تراجعت القوات الإيطالية وكانت منهكة بالكامل.
توقيع هدنة من موقع قوة.. مفاوضة الند للند
بدأ عمر المختار بانتهاج تكتيك سياسي جديد، إذ أيقن رغم الانتصار الذي حققه مقاتلوه أن الحكومة الفاشية لن تتراجع حتى تتمكن من إبادة المقاومين، وقرر فك عزلة الثوار بإرسال مقاومين للتعريف بالقضية الليبية في أوروبا ودول إسلامية، وفي المقابل أظهر عبقرية عسكرية أجبرت القوات الإيطالية على إيقاف عملياتها طيلة العام 1928.
وفي منتصف العام 1929 تفاوضت القوات الإيطالية مع عمر المختار بشروطه، وكانت في الواقع تحاول كسب الوقت للإيقاع به عن طريق تنظيم صفوفها ووضع خطط للدخول في حرب عصابات مع الثوار الليبيين.
أجبر الشيخ عمر المختار المشير “بييترو بادوليو” حاكم طرابلس وبرقة على مقابلته والتفاوض معه نداّ لندّ، وتشبث بشروطه مقابل قبول الهدنة مع الإيطاليين، ولم يكن يثق بالمشير “بادوليو” ولا بالجنرالات الذين اجتمع معهم في لقاء ودي بعد الاتفاق على وقف الهجمات، وما لبثت أن سقطت الهدنة بعد أن تفطن المختار إلى قيام الجنرالات الإيطاليين ببث الفتنة بين المقاتلين الليبيين، وكان ذلك بعد هجوم على دورية إيطالية اتهمت فيه الحكومة الإيطالية المختار بالخيانة.
“لقد أخذنا اليوم نظارات المختار، وغدا نأتي برأسه”
بعد اتهام الإيطاليين لعمر المختار بالخيانة أصدر “دومينكو سيشيلياني” نائب “بادوليو” بيانا قال فيه: لقد فرضت علينا خيانة عمر المختار استئناف الحرب ضد الثوار، وسيكون قتالا شاملا بدون رحمة ضد كل من يرفع السلاح في وجه الحكومة أو يحمله بدون ترخيص.
وقد ترجم ذلك الغضب إلى هجوم فاشل على معسكرات المقاتلين الليبيين في الجبل الأخضر، لكن فشل ذلك الهجوم أدى إلى المجيء بالفريق أول “رودولفو غراتسياني”، وحينها بدأت نهاية عمر المختار تلوح، فقد كان رأسه هدف “غراتسياني” الأوحد، حتى أنه رصد جائزة بمائتي ألف فرنك لمن يأتيه بعمر المختار حيا أو ميتا.
بعد اشتباكات مع الثوار الليبيين في الثلاثين من شهر تشرين الأول من العام 1930، عثرت القوات الإيطالية على نظارات عمر المختار، واستغل “غراتسياني” تلك الحادثة ليدمر أسطورة عمر المختار، وقال قولته الشهيرة “لقد أخذنا اليوم نظارات المختار، وغدا نأتي برأسه”.
“يا سيدي عمر”.. مقتل الفرس ومشنقة الفارس
بعد عام من حادثة النظارات أسر عمر المختار في الحادي عشر من شهر أيلول سنة 1931 من قبل الجيش الإيطالي، حين كان صحبة فرقة صغيرة من المقاتلين متوجهين لزيارة قبر الصحابي رويفع بن ثابت في مدينة البيضاء، ويقول ابن قريته المجاهد عبد الجليل المنفي الذي كان شاهدا على لحظة القبض على المجاهد عمر المختار: كنا غرب منطقة اسلنطة فهاجمنا الأعداء الخيالة وقُتل حصان سيدي عمر المختار، فقدم له ابن اخيه المجاهد حمد محمد المختار حصانه وعندما هم بركوبه قتل أيضا وهجم الأعداء عليه، ورآه أحد المجندين العرب وذهل واختلط عليه الأمر وعز عليه أن يقبض على عمر المختار فقال يا سيدي عمر، يا سيدي عمر، فعرفه الأعداء وقبضوا عليه.
في الخامس عشر من شهر أيلول من العام 1931 بدأت محاكمة عمر المختار، فأتى إليه “غراتسياني” وقال له “إني لأرجو أن تظل شجاعا مهما حدث لك” فأجاب المختار بهدوء “إن شاء الله”، وفي صباح السادس عشر من أيلول في العام 1931 أجبرت القوات الإيطالية قرابة عشرين ألف شخص من القبائل الليبية على مشاهدة تنفيذ حكم الإعدام.
تقدم الشيخ المنهك مكبل اليدين، وكان هادئا لكنه لا يزال يزرع الخوف في قلوب الإيطاليين، حلقت طائرات في سماء ساحة الإعدام، ولم تسمع أي كلمة منه، تقدم شامخا إلى المشنقة، وكانت نهاية الجسد وبداية قصة أسد الصحراء العظيمة.
“رئيس العصابة”.. مشعل ليبيا الذي أخمدوه فألهب الثورة العربية
لم يحقق إعدام عمر المختار ما تمناه الإيطاليون، فلم تخمد الثورة، بل زادت صورة الشيخ المتدلي من حبل المشنقة التي شاهدها آلاف الليبيين من شعلة الثورة في نفوسهم، فنصبوا قائدا جديدا لقتال الإيطاليين وهو الشيخ يوسف بورحيل المسماري، وبدأ الثوار بنتظيم صفوفهم واستمالة مقاتلين جدد، لكنهم لم يصمدوا كثيرا فقد ضيقت إيطاليا عليهم الخناق وقتلت قائد الثورة الجديد إلى جانب أحد أهم شيوخ المجاهدين حينها وأسر آخرون، واستمر الحال على ما هو عليه إلى أن انحسر نفوذ إيطاليا خلال خسارتها في الحرب العالمية الثانية، وانسحبت في السابع من أبريل 1943.
أثر عمر المختار في الكثيرين أثناء حياته، وكان ذلك الأثر أكبر بعد إعدامه، فراجت أخبار ذلك الشيخ الطاعن في السن الذي وقف في وجه المستعمر الإيطالي خارج الحدود الليبية، وكانت بمثابة الوقود الذي أجج حماس المقاومين في بلدان عربية.
لقد ضربت إيطاليا حصارا على أخبار انتصارات عمر المختار حتى لا تتسرب إلى مصر التي كانت صحفها المزود الأكبر للأخبار خاصة للصحف العراقية، وحاول الإيطاليون استخدام نفوذهم الدبلوماسي في مصر حتى يمنع نشر أخبار الحرب القادمة من طرابلس ليبيا، وكانت سلطات الانتداب البريطاني في القاهرة تخشى بدورها من أن تزيد أخبار انتصارات عمر المختار على القوات الإيطالية من تأجيج الروح القومية في مصر.
لقد كان الشيخ عمر المختار شبحا مخيفا للفرنسيين والإيطاليين والبريطانيين، وكان من المخيف بالنسبة لهم أن يصبح ملهما لثورات عربية في وجه الاستعمار، لذلك عملت إيطاليا بكل قوتها على تشويه الثوار في غرب ليبيا، وأطلقت على المختار صفة “رئيس العصابة” وقللت من شأن خسائرها، ونشرت شائعة استسلام عمر المختار ومقاتليه بعد اتفاق الزويتينة في العام 1916.
ركزت الصحف العراقية في العشرينيات على نقل أخبار انتصارات الثوار اللليبيين بقيادة عمر المختار، وكأنها تحاول تأجيج روح العراقيين مرة أخرى بعد ثورة العشرين، كما كانت مصر تعيش على وقع ثورة أحمد عرابي في العام 1919، وكانت الحكومة البريطانية تخشى تحرك الشارع المصري في العام 1927 بعد وفاة سعد زغلول وتولي مصطفى النحاس باشا رئاسة حزب الوفد، ولم يكن من صالحها أبدا أن تصل أخبار انتصارات الشيخ عمر المختار على قوات الاحتلال الإيطالي، لتقوي حماس الشارع المصري.
“ارتعش قلبي من جلالة الموقف”.. الحق ما شهدت به الأعداء
في الواقع لم يكن القائد “غراتسياني” -الذي أشرف على تنفيذ حكم إعدام عمر المختار- يخفي إعجابه الشديد بعدوه حتى أنه احتفظ بنظارته، واحتل حيزا كبيرا في مذكراته، ووصفه بأنه “أسطورة الزمان الذي نجا آلاف المرات من الموت ومن الأسر، واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام، لأنه الرأس المفكر والقلب النابض للثورة العربية في برقة، وكذلك كان المنظم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة”.
لم يستمتع “غراتسياني” في أوج لحظات انتصاره بالقبض على قائد الثورة الليبية بتلك اللحظات بل حرص على الحديث مع عمر المختار دون إذلاله، إذ يقول في مذكراته: عندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أنني أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر.
كانت مقابلة “غراتسياني” لعدوه بمثابة الوداع، ووصف آخر لحظات في المقابلة بينهما بقوله: ارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خضت المعارك والحروب العالمية والصحراوية، ورغم هذا كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنبس بحرف واحد، فانتهت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه للمحاكمة في المساء، لقد خرج من مكتبي كما دخل علي، وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير.
كان أغلب القادة الإيطاليين يحملون شيئا من التقدير لعمر المختار رغم دموية القتال بين القوات الإيطالية والثوار بقيادة المختار، واعترف الزعيم الإيطالي “بينيتو موسوليني” بقوة عمر المختار وقال: إننا لا نحارب ذئابا كما يقول “غراتسياني”، بل نحارب أسودا يدافعون بشجاعة عن بلادهم، إن أمد الحرب سيكون طويلا.
كما أدرك “بادوليو” حاكم طرابلس أن خصمه شديد الذكاء ووصفه في رسالة إلى أحد الوزراء الإيطاليين بالقول إن “عمر المختار هو المحور الذي تدور حوله الثورة وهو يحظى بسلطة ونفوذ مطلقين ولا يشاركه أحد في السلطة، ولديه نواب مخلصون وملتزمون، فمن المستحيل استعمال الأسلوب المعتاد لاستغلال كوامن الغيرة والتنافس والحقد التي توجد دائما كلما وجد عدة زعماء. إن إرادة عمر المختار القوية هي التي تملي القوانين في أي وقت وأي ظرف.
ورغم أن “إتيليو تروتسي” حاكم برقة كان عدوا لدودا لعمر المختار طيلة عامين من حكمه، فقد كتب في مذكراته بعنوان “برقة الخضراء” بأنه “الرجل الذي لا يسعنا إلا أن نعترف له بالصمود وبقوة الإرادة الخارقة”.
صدقت كل تلك الأوصاف، وكانت صحيفة التايمز البريطانية الأصدق في مقالها الذي نشرته بعد يوم من إعدام شيخ المجاهدين، وقد قالت فيه إن عمر المختار كان رجلا رهيبا، وكان شيخ القبيلة الضاري العنيف الذي بقي لسنواتٍ طويلة يمثل روح المقاومة العربية.