إذا تحدثتَ عن الرحمة بهم وجدتَ قلبه يفيض بها رأفة ورقة، وعطفاً وحنواً، ورفقاً وإشفاقاً، فكان للجميع أباً رؤوفاً رحيماً؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “ما رأيتُ أحداً كان أرحمَ بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم” (رواه مسلم)، فقد وسعت أخلاقه العظيمة كل من حوله، وامتدت رحمته لتشمل فصيلة الضعاف الذين ليس لم نصيب من القوة بعد، وهم الأطفال؛ حيث أثبت النبي صلى الله عليه وسلم حق الطفل في الحياة الطيبة، وحقه في التربية الصحيحة والرعاية الصحية والتغذية البدنية، والحماية من الأخطار، والعيش في أمان، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرسالة للعالمين، ولا عجب، فالطفل سرعان ما يكبر ليصير عماد الأمة ومستقبلها واللبنة التي إن صلحت صلح بها بناء أمته؛ لذا كان يُعِدُّ الأطفال منذ نعومة أظفارهم لذلك.
كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً بالعيال، وقد يُظهِر رحمته لهم في قُبلة يطبعها على جبين أحدهم، كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس، أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الحَسَن فقال: إن لي عشرة من الولد، ما قبّلتُ واحداً منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنه من لا يَرحم لا يُرحم” (رواه مسلم).
وقد تظهر هذه الرحمة في دعوة بالبركة لهم، كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤتَى بالصبيان فيدعو لهم” (متفق عليه)، أو في حُنوّه عليهم كما روى أسامة بن زيد، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن عليّ على فخذه الأخرى ثم يقول: “اللهم إني أرحمهما فارحمهما” (صحيح ابن حبان)، أو في السلام عليهم كما روي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم (صحيح ابن حبان)، أو في لعقةٍ من حلوى يحبها الطفل، كما روي عن جابر بن عبدالله أنه أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم جرة فيها حلواء، فجعل يأتي على رجل رجل فيلعقه، حتى أتى عليَّ وأنا غلام، فألعقني لعقة ثم قال: “أزيدك؟”، فقلت: نعم، فألعقني أخرى لصغري، فلم يزل كذلك حتى أتى على آخر القوم.
وقد تظهر رحمته الكبيرة في ملامسة يده الشريفة خدود الأطفال يمسح عليها عطفاً وحباً، كما روي عن جابر بن سمرة قوله: صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى (الصبح أو الظهر)، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله وِلدان، فجعل يمسح خَدَّيْ أحدهم واحداً واحداً، قال: وأما أنا فمسح خَدِّي، قال: فوجدْتُ لِيَدِه بَرْداً، أو ريحاً كأنما أخرجها من جُؤنة عطار (أي سَلَّته) (صحيح مسلم).
فيا لها من رحمة! ويا لها من مواقف تُنقش في عقول الأطفال ولا تبرحها مهما كبروا، أثرها كبير ومفعولها واضح في بناء الطفل وتنمية مشاعره وتغذية عقله وروحه وعاطفته!
اللعب والرعاية والتعليم
انظر كيف كان يتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال بما يناسب عقولهم وفطرتهم وأعمارهم واحتياجاتهم، فيظهر لهم عطفه وحبه ورحمته، وينمي فيهم الشعور بمكانهم ومكانتهم، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليهمل حقهم كأطفال في اللعب الذي هو جزء مهم في حياة كل طفل يساهم في بناء عقله وجسده، فتحكي عائشة رضي الله عنها وتقول: كُنْتُ ألعَبُ بالبناتِ وتجيءُ صواحبي فيلعَبْنَ معي، فإذا رأيْنَ النبي صلى الله عليه وسلم قُمْنَ منه، فكان يُدخِلُهنَّ إليَّ فيلعبن معي. (صحيح ابن حبان)، يمر على الأطفال وهم يلعبون فلا ينهرهم ولا يزجرهم بل يسلم عليهم، قال أنس: أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان فسلم علينا. (رواه مسلم)، وكان يصُفّ عبدالله، وعبيدالله، وكُثَيَّراً، بني العباس ثم يقول: “مَن سبقَ إليَّ فله كذا وكذا”، قال: فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره فيقبِّلهم، ويَلزمهم. (رواه أحمد).
كان صلى الله عليه وسلم يوجههم بحب ويعلمهم برفق، فيقول لعمر بن أبي سلمة: “يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك” (رواه مسلم)، ويقول لابن عباس: “يا غلام، إني معلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك” (رواه أحمد).
وكان يقدرهم ويجلسهم في مجلسه، فعن سهل بن سعد الساعدي قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغرُ القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: “يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟”، قال: ما كنتُ لأُوثِرَ بفضلي منكَ أحداً يا رسول الله، فأعطاه إياه. (رواه البخاري).
ويعلمهم أن الكلمة أمانة ويأتمنهم عليها، كما قال أنس بن مالك: “أسرّ إليّ النبي صلى الله عليه وسلم سِرّاً، فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتني أم سليم رضي الله عنها -أمّه- فما أخبرتها به” (رواه البخاري).
ويدعو إلى الصدق معهم وعدم الاستخفاف بعقولهم البريئة، فعن عبدالله بن عامر قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعالَ أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما أردتِ أن تعطيه؟”، قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: “أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة” (صحيح أبي داود).
فإذا بحثنا عن أصول التربية وقواعدها وأسسها، فسنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المؤسس الأول لها، وواضع أصولها، ومطبقها على أرض الواقع، فلم تكن مجرد نظريات تُصاغ لتمتلئ بها الكتب وتلوكها الألسنة في المحافل والمؤتمرات؛ بل صاغ بها نفوساً عالية ملأت الأرض نوراً وعلماً، فكانت بحق خير القرون إلى يوم الدين.
لم يكن ليهمل حق أحد مهما صغر، بل كانت الحقوق محفوظة لصاحب كل حق منها، وقد وضع وثيقتها متمثلة في أقواله وأفعاله، وسنته وشريعته، فأعلن حقوق الأطفال قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وقبل أن تتكلم عنها الهيئات الحقوقية، وسَجَّلها عملاً وتطبيقاً دون إجحاف أو إهمال، وبلا عنصرية أو تعصب لنسب الطفل وقبيلته، أو لونه وجنسه.
بين الحقوق والتحديات
إن الأطفال اليوم في معظم بلاد العالم ذهبت حقوقهم، وسُلبت طفولتهم، وسُرقت سعادتهم، وجاع كثير منهم وساءت تغذيته.
وقد حذرت منظمة “يونيسف”، في تقرير لها عام 2019م، من أن ما لا يقل عن واحد من كل ثلاثة أطفال دون سن الخامسة يعانون من نقص التغذية.
إنهم يعيشون تحديات كبيرة في ظل الصراعات والسياسات الدولية، التي يضيع معها حق الطفل قبل أن يولد، وتوأد أحلامه قبل أن يفتح عينيه على الحياة! وإنّ حال كثير منهم اليوم الذين زُجَّ بهم في الصراعات المسلحة وصاروا ضحايا الحروب، وأصبحوا ذوي عاهات نفسية وبدنية، مشردين لاجئين بلا آباء أو أمهات، وما حدث أخيراً في أمريكا من تفريق آلاف الأطفال المهاجرين عن ذويهم، لهو خير شاهد على ذلك.
لكن الإسلام قد كفل للطفل سلامته وأمنه، وحضن أبيه وأمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من فرَّق بين الوالدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة” (صحيح الترمذي).
كما يتعرض العديد من الأطفال لأشكال مختلفة من العنف والاستغلال والإيذاء، بما في ذلك الاعتداء والاستغلال الجنسي، والعنف المسلح، والاتجار بالأطفال، والترهيب على الإنترنت، وعمالة الأطفال، وغير ذلك من الممارسات الضارة الأخرى، ويُقدر عدد الأطفال الذين يعملون ويعمل كثير منهم بدوام كامل في جميع أنحاء العالم نحو 215 مليون طفل (منظمة العمل الدولية).
وإن كثيراً من الأطفال اليوم في حاجة لحمايتهم من الوقوع في مستنقع المخدرات تعاطياً أو بيعاً، كما أنهم في حاجة ماسة للحفاظ على عقولهم وقلوبهم الغضة من أخطار الإدمان للأجهزة الإلكترونية بحلوها ومرها التي تنتزع منهم براءتهم وصحتهم وعمرهم وأسرتهم، والنظر بجدية في كل ما يقدم لهم وتنقيحه.
لقد جاءت شريعة الإسلام قرآناً وسُنة داعية لأداء حقوق الأطفال ذكوراً وإناثاً، والحفاظ عليها، والتواصي بها، وذلك من قبل أن يوجد هذا الطفل ويخرج إلى الحياة، فما أسعد الأطفال إن أخِذ بها! ولم يُعرف في التاريخ للطفل حقه كما عُرف في الإسلام، ولم يُشَرِّع أي قانون حقوقاً متكاملة للطفل كما شرّعتها شريعة الإسلام، ولم يوجد مَن هو أحنّ على الأطفال وأرحم بهم وأحرص عليهم من رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.