ليتني كنت رساما؛ ساعتها كانت لغة الألوان تعبر أفضل من تلك الحروف التي صارت بلا ثمن في بلاد تحتفي بالغيم وتختزن الورد في سراديب العتمة.
على أية حال تتداخل أجزاء حكايتنا لتكون لوحة عجائبية؛ أصوات مرعبة تتناهى إلى سمعي، واهنة لكنها تجسد رعبا، لم تكف الجدات عن تلك الحكايات الموغلة في الماضي، يتداولن كل يوم واحدة مثل أرغفة الخباز شعبور تستقر في معدة الجوعى الذين لا يشبعون.
ثمة ساقية تسكنها القطط الحمراء، لها عيون تومض بريقا في العتمة، تخرج تلك عند منتصف الليل تتمسح بأرجل القادمين، يقال إنها تتطاول حتى تبلغ حجم بقرة الهنادوة؛ أولئك قوم يعرفون بالطيبة وبسطة الجسم، ﻻ يردون سائلا ولا يخذلون محتاجا، الناس في كفرنا يحتاطون منها، يعدون السمك ﻷجلها، رغم أنها لا تتناول طعاما ولا تحتاج إليه، يخافون منها، حين كنت صغيرا نازعتني نفسي أن أمسك بواحدة منها، يحلو اللعب بها، كمنت حتى إذا أظلمت الدنيا، خرجت أحمل سلة، أمسكتها بإحكام، أخذت معي حبلا وقناعا؛ حتى لا تعرفني أمها، في هذه الساعة لا يأمن الطفل على نفسه.
تسللت كنملة تدب دونما تصدر صوتا، جاءت واحدة نافرة شعرها، تمشي على رجليها الخلفيتين، لها رأس عنزة كبيرة، أذناها تتدليان تشبهان غطاء ماعون كبير.
تملكني الرعب؛ تشجعت، كيف لفتى أن تخيفه قطة؟
حين اقتربت منها، أحاطتني برجليها الأماميتين، تقافزت مسرعة مرة أمامي، أخرى من خلفي، يبدو أن خطرا يحيط بي، سردت لي جدتي حكاية لأنام:
رغيف خبز يتمدد كلما اقتربت منه أيدي الجوعى، يتسلل الواحد منهم من وراء أخيه، يحشون بطونهم بتلك الأرغفة الشهية قبل أن يأتي زمن الجوع المنتظر، يجهزون لليلة المولد الكبيرة، أضواء تختطف الأنظار، زينة في كل ناحية، يبدو ذلك من أبعد مسافة، فثمة مئذنة ضوؤها أخضر كأنما هي جبل يشعلون به نارا، الوالي يجهز قصرا كبيرا، يسرق الحرَفية ويلقى بهم هناك، سيكون هناك سوق لمغني الربابة وآخر للعبيد وثالث تجري فيه الخيول، لن يدخله إلا التجار والأشراف، يتسارع الناس عند ديوان الوقائع؛ يبحثون عن سلسلة نسب شريف.
تكمن عند بوابة المتولي قطط وكلاب، الحراس يرقبون العابرين بعيون لا تطرف؛ يخشون من حادث غير متوقع؛ ميلاد ابنة حاكم المدينة، تجار الحلوى قدموا عرضا يغري فيسيل منه لعاب الجوعى؛ باعة ألعاب الأطفال خفضوا أسعارهم، مراجيح مولد السيدة أم هاشم فيها اللفة بنصف ريال، لم يهتم بائع الخبز بكل هذا الاحتفاء، إنه يعاني كثيرا، الرغيف لا يقبل الاشتراك في الأعياد؛ الخبز وحده يملأ للجوعى بطونهم، يتجرعون شربة ماء ثم يزهون بالحمد.
يبدو متعبا، ينام من الليل قليلا، لديه واجبات لا بد أن يؤديها؛ يستطيع الناس أن يستغنوا عن الحلوى ولعب الأطفال، لا يمكن حدوث ذلك لصاحب الخبز، تجمع تجار المدينة، وشوا به إلى الحاكم؛ إنه لا يشعر بأهمية الاحتفاء بتلك المناسبة النادرة!
انحنى ظهره؛ خمسين عاما ويزيد يشعل الفرن بالفحم، تعلوه حدبة أشبه بحجر طاحونة الرحى، يدور رغيف في إثر رغيف، تتلقف بطون المجاورين في الأزهر؛ درب الأتراك يفضي إلى درب الجماميز، والقلعة سجن يقف على بابه أغوات يتوعدونهم بالعصي؛ يتلقونهم بسياط تترك وشما أزرق على أجساد المنفيين في دروب المحروسة.
انتهزها فرصة لينظر أيهم أكثر نفعا، طلب إليه الحضور، لم يأت بعد، زادت شكاية الآخرين؛ إنه يهزأ بتقاليد مولانا، يتكبر؛ يبدو مصابا بمرض العظمة، أسرها الحاكم في نفسه، يشعر بمرارة لا تنتهي، توسوس إليه زوجته: أصدر أمرا باستدعائه مربوطا في حصان الدورية، حافيا أو حتى عريانا؛ فالناس هنا تتساءل: هل صار الخباز حاكم المدينة؟
أخذ يفكر في تلك الوشايات، يتحدث عن أثرها عليهم، يتناقلون شائعة: الخباز يحتال ليغير مجرى النهر؛ يعد لهذا الأمر منذ سنوات، يخدعنا بصنعته تلك؛ يوجد سرداب خفي يبدأ من خزانة الدقيق وينتهي عند مدخل الصحراء، يستخدم لتلك المهمة البدو والغجر، يبدوان متحاربين في الظاهر؛ عكس هذا يتعاونان ﻷجل هدف غامض، يطوف بمدينتا شعبور الساحر؛ يجمع أخبار الحاكم؛ يتعرف على موضع الضعف في مجرى العيون، يخفي أوراقا وأقلاما في عمامته.
أخذت الحادثة تسيطر على أذهان سكان الحارات القريبة من بوابة المتولي؛ كل يوم يخرج الخباز إلى النهر يأتي بالماء ليعجن أرغفة شهية؛ تتراقص في أفواه الجوعى؛ تمدهم بطاقة الحياة، يفرحون بها؛ تجعل بطونهم ممتلئة؛ يتجرعون الماء، يتناقص النهر كل يوم شبرا؛ فالسماء لم تأت بمطر جديد، باعة الحلوى يشتكون من بوار سلعتهم؛ لا حاجة لسكان حارة المغربلين أو السروجية بل ولا درب الهوى حتى درب سعادة بشيء منها؛ منع الحاكم إقامة موالد ﻷهل البيت؛ فالنهر في خطر!
صار شعبور ذلك النمام الذي يتسمع الأخبار، يضع أذنه حيث يكمن تحت نوافذ البيوت؛ فالمدينة أشبه ببلدة تتجاور، الحاكم يشغل كل شعبور ممزق الثياب، تبدو ريالته صنبور يدفع بالماء من سبيل أم عباس، تتقافز قرود الجبلاية المؤدية إلى الجبل الأحمر.
يتمايل شعبور في نواحي المحروسة، له شارب يقف عليه الصقر، تتدلى من رقبته “خمسة وخميسة”؛ أذنه اليمنى مثقوبة؛ يقولون: أمه لم يعش لها أولاد، جاءت به قومها في أمشير؛ كانت ليلة شديدة الريح، اشتعل فرن الخباز سبعة أيام، خرجت منه قطة سوداء لها ذيل طويل، زارها في المنام هاتف؛ أسميه شعبورا، له سر باتع، صنع الخباز فطيرة محشوة بالحمام، شعبور لا أب له، معاذ الله أن تكون حملت به من باب خفي؛ هجرها أبوه، كانت قطعة فحم تنتقل من بيت إلى آخر؛ توارث شعبور عنها زيغة العيون، والوشاية بمن أحسن إليه.
وسوس شعبور لحاكم المدينة؛ مقتلك في رغيف مخلوط بدم سلحفاة عجوز، أرسل في أنحاء المدينة أقتلوا كل سلحفاة أو ادفعوا به في فرن الخباز.
بنت الحاكم ممسوسة، عجز جن سليمان أن يداويها؛ شائعة أطلقها شعبور؛ بنت حلوة، خدها تفاح أحمر، شعرها يسبح في النيل، يتماوج في رقصة شمس الأصيل، جيدها أشبه بإصبع الموز، كيف لشعبور النمام أن يدخل القصر؟
أدار حيلة وراء أخرى…