حين يأتي الشتاء تتداعى الحكايات وتتجمع في ذاكرتي؛ تصير حملا ثقيلا أحاول التخلص منه، يكون السرد منفذا للبوح إلى تلك الزوايا الخفية، تلفت كل ناحية ألتمس طريقي بين الزروع والأشجار لا أكف عن العبث بأعشاش العصافير، تنهرني أمي؛ دع الأمهات يشبعن الصغار لبنا؛ ها أنا أبحث عن لبن العصفور، بات مستحيلا كما الأحلام الفضية.
أطير من كراس الرسم طائرة أمسك بمقودها؛ أرسم عليها حكاية الطفل الذي يحلم بأن يكون ابن السلطان ويطير فوق السحاب، تهب الريح فترتمي طائرتي وقد تناثرت؛ لم أمتلك يوما علبة ألوان؛ فتلك الأفواه الجائعة تحتاج الرغيف لا فرشاة يرسمون بها عالمهم الذي تطارده الغيلان.
نحن مثقلون بصور وحكايات أثرت فينا مما قصته الجدات أو خوفتنا به الأمهات، لكل منا طيف من أحلام ونتف من خيال جميل، لكن كل هذا يظل يرتعد من الجن يراهم فوق الأشجار وعند حَنْية الطريق وجوار البيوت الخربة وفي سكة المقطع تدور ساقيتها فتخرج أرانب بيضاء، يا لهذا العالم الساحر بما اشتمل عليه من طفولة تعبث بالأشياء، صورة تجمعت أجزاؤها من متفرقات فغدت جميلة!
ما أزال ذلك المندهش بما رأى تثقل ذاكرته أشياء صارت بعيدة، خبز أمي ورائحة بيتنا الطيني يوم يتساقط المطر فنغدو كأفراخ الحمام نبحث عن ركن نأوي إليه، تتداخل أجسادنا وتتلاحم عواطفنا يهب بعضنا لبعض الدفء عوض برودة الشتاء، نتقاسم الخبز ومن ثم نستمع لحكايات تعاد وتتكرر؛ العنزة حاز والأخرى ماز والثالثة تضرب بالعكاز؛ الثعلب يرتدي جلد العنزة التي افترسها لكنه نسي أن يخفي ذيله، ومن يومها ونحن نوصد الباب جيدا مخافة أن يأتي ذلك المراوغ الذي يشتهي لحم الأطفال؛ في كل مكان من هذا العالم قطع لحم متناثرة لحملان عبثت بها رصاصات الثعالب والذئاب!
تأتي كل تلك الأوهام فأتخفى تحت لحافي، أغوص في حشية سريري، أبحث عن تلك الفتاة التي تراقصت على ضوء القمر، يسرح شعرها مع أشعة الشمس الذهبية يتماوج مع أغنيات فيروز ذات الوهج الدافئ؛ أين هي الآن؟
يبتعد العيد كلما أتى الشتاء؛ إنه يكره البرد ولا يحب الريح؛ لا يجد فيه الصغار مكانا للعب، تتسلل في لياليه المربوطة بحبال الرعب كل ذئاب الناحية؛ تنفذ فيه حبات القمح وتعبث الفئران في الثياب والأغطية؛ في الشتاء تموت أشجار التوت وتتعرى أوراق الياسمين.
أبحث عن جدتي فلا أجدها؛ ارتحلت إلى العالم العلوي؛ غادرت دون أن تتم حكاية العنزات الثلاث، بقي الثعلب يعبث في الحقول؛ لم تعد به حاجة أن يتخفى؛ تفرق الذين يوما كانوا الأطفال؛ منهم من صار أشبه بالغول ومنهم من باتت تسرق الحكايات لصغارها، طال الشتاء عن كل عام، يقولون إنه سيمكث في حارتنا ستة شهور؛ وفي المرة القادمة ستختفي الشمس، تتكاثر الثعالب حين تتسافح في لياليه الطويلة؛ حدث هذا حين كفت الديكة عن الصياح.
ترى هل أوصت الجدة بذلك الصغير؟
ما الذي جعل وشوشات الشجر وزقزقة العصافير تتحول إلى مفردات تنتظم في جمل؟
لم تسدل الستارة بعد، تتحرك شخوص المسرحية بعفوية، بائع الحليب يطرق البيوت لكن الصغار غابوا في السرداب، ساعي البريد اعتلت ذاكرته؛ ينسى البيوت ولم يعد يحمل تلك الرسائل البريئة؛ كلها حيل لآلة لا تعرف الحب، من يرسم نخلة تعانق السحاب وتسابق مئذنة الجامع الكبير؟
في كتاب سيدنا كنا نتلو السور والآيات نتمثل الجنة وفيها اللبن نهرا والعنب يتدلى كل حبة تقطر عسلا، تتعارك في النار الذئاب وتطاردها كلاب لها أنياب من حديد؛ والآن هل ما تزال ذاكرة الصغار تحتفظ بكل هذا؟
ألملم بقايا ذلك الطفل الذي كنته يوما، أعثر على بعض الأوراق والكراسات، وردة مجففة رسالة صبي إلى فتاته التي سكنت حلمه، رائحة الخبز الذي صنعته جدتي؛ حليب العنزة يوم أمسكت بها ومن ثم التقمت حلمتي ضرعها، أطلقوا علي “ابن العنزة”، سررت بهذا؛ كنت أشبهها في تسلق الأشجار والحوائط، أقفز ومن ثم أتراقص؛ ما أجمل كل تلك الألعاب!
هل تبقى للصغار فضاء يرسلون إليه أوراقهم تطير؟